يومياتي في الحظر: الحلقة (44)
قبيل صلاة العصر كنت أتوضأ فجاء ابن أختي، وأخبرني عن قدوم جدتي من الأم، ثم بعد ما فرغت من الوضوء دخلت علي جدتي من الأم، وقبلتني كالعادة، وجلست معي، فبدأنا الحديث معا، وبما أنها تسكن في القرية، وأنا في المدينة والمسافة بينهما أكثر من ثلاثين كلومتر، فلذا لا تأتي كل يوم، وأنا أيضا لا أذهب إلى القرية كل يوم، بل في شهر أم في شهرين مرة أذهب إلى القرية لزيارتها، فهذه المرة بما أني طريح الفراش، ولست قادرا على المشي، فجاءتني بنفسها لتزورني، فجلست معي حوالي أكثر من ساعتين، وتحدثنا في أمور شتى...
ومن هويتي أني أحب الحديث مع الكبار في السن، وأستفيد من نصائحهم، وخبراتهم، وأحيانا أجد موعظة تفيدني أنا شخصية، فأولا كانت جدتي من الأم على قيد الحياة، فكنت أتحدث معها خاصة في ليالي رمضان، فكانت تخبرني أمورا كثيرة جدا، حتى كنت أتأسف على عدم معرفتها من قبل، ولكنها ـ رحمها الله تعالى ـ رحلت من هذه الدنيا الفانية في العام الماضي، ولم تبق لي جدتي إلا هذه، والتي هي في الأصل أخت جدتي من الأب، فأنا أقول لها من حين إلى آخر: ياجدة، أنت جدتي من الأم، ولكني أعتبرك جدة من الأب والأم، وذلك لأن جدتي من الأب التي هي في الأصل أختك قد رحلت، فأنت الوحيدة التي أناديها جدة...
لما كانت جدتي من الأب على قيد الحياة فأخبرتها مرة بأن الجامعة زادت راتبي، ففرحت، وقالت لي: اسمع يا بني، لا تخبر أي واحد من هذا الأمر، حتى زوجتك أيضا، فقلت لها متسائلا: لما ذا جدتي؟ هل فيه حكمة أو سر؟ فقالت لي: نعم، لو أخبرت زوجتك عن راتبك فإنها تشكو وتقول فيك: عنده مال وافر ولا يعطينا منه، فلذا أبق هذا الأمر سرا، وادفنه تحت الأرض، فقبلت نصيحتها، ولم أخبر إلى هذه الساعة عن كمية راتبي، وذكرت هذا الكلام لأثبت أن كلام الكبار في السن لا يخلو من فائدة، ثم تجد في كلامهم نصيحة وموعظة قيمة...
فلما تحدثت مع جدتي من الأم فإنها أيضا أشعرتني أمرا كنت أجهله من قبل، فبدأت حكايتها قائلة: إني أصبت بسعال منذ الأيام، وكان شديدا حتى ما كنت أستطيع النوم، وهذا السعال استمر أكثر من شهر، ولكن الأمر الذي تعلمت من خلال هذا المرض هو أنه لم يأتني أحد ليسأل عن صحتي، حتى أقربائي القريبين جدا، فيا بني، الإنسان عند ما يكون معافى فيأتيه كل واحد، ويتحدث معه، ولكن ما إن يمرض فالكل يتفرقون عنه، ويبتعدون عنه...
لما سمعت كلامها قلت لها: صدقت يا جدتي، فإن كل واحد في هذه الدنيا مغرض، وحريص، وله مطالب، فإن وجد مطالبه عند أحد يذهب إليه، وإلا فلا يقترب منه، وهذه الفلسفة لن نجدها في الكتب، ولا في الجامعات، ولا في المدارس، بل نجدها عند كبارنا نحن في السن، فكلامهم ذهب، فلا بد لأمثالنا نحن من الحفاظ على ذلك الذهب...