القارئ المتمرّس
من ثمرات القراءة المكثّفة المثمرة أنها تجعل القارئ يعرف الكتابات الرفيعة الفائقة من الساقطة الباردة والكتّاب المطبوعين البلغاء من المتكلفين الضعفاء.
يعثر بالصدفة على كتاب أو مقال لكاتب فيجرّه الكتاب إلى البحث عن الكتب الأخرى لهذا الكاتب فلا يهدأ إلا عند الحصول عليها، ويثيره المقال على قراءة مقالاته الأخرى، فيكون متابعا له معجبا به، يقرأ له يوميا في كتبه أو صفحاته الإلكترونية، واليوم الذي تعرّف على هذا الكاتب يوم سعيد لديه، والكاتب إضافة نوعية إلى قائمة معاريفه.
في بداية عهده مع القراءة لا يقرأ لكاتب إلا ويبهره، فيرى الجميع رائعين معجبين، لأنه يرى نفسَه أمامهم جِرما صغيرا، لا يقدر على المقارنة بين كاتبَين، ثم بالاستمرار تحصل له هذه الملكة الفارزة، فيزهد في الكثير من الكتابات الفارغة من الروح ولهيب الحماس.
لا أقول أنه يستطيع النسج على منوالهم بالضرورة ويقدر على مباراتهم، لا بل يعرف الكتّاب البارعين ذوي الأقلام الرائعة وبالأصح الأقلام الساحرة والكتّاب السحرة ! الذين يمارسون السحر الحلال، ممن ينادون الكلمة والسحر يجيبهم.
والعرب منذ القديم يسمّون الكلام الجميل الرائع "السحر الحلال" ويقولون: الكلام الجميل من إحدى النفّاثات في العقد! وفي هذا قال أبو تمّام:
هي السحرُ الحلالُ لمُجتليه
ولم أرَ قبلها سحراً حلالاً
إنّ القارئ المتمرّس لا يخفى عليه سحر الجاحظ، وابن المقفع، والمنفلوطي، والرافعي، والندوي، والطنطاوي، ونظرائهم، فيشعر بالقوة الساحرة في كتاباتهم، ويرى تعابيرهم نفاثاتٍ في العقد.
لا أظنّ أن تحصل هذه الملكة للقارئ غير الكاتب بمقدار ما تكون حاصلة للقارئ الذي يكتب، إذ هو ضمن القراءة يركّز على أساليب الكتّاب، يجيل النظر فيها ويصعّده، فيرهف حسّه وترقّ عاطفته.
سيد مسعود
إشراقة/ ٢٦ رمضان ١٤٤١