الكتابة والقراءة
قال الأستاذ الرافعي:
"اقرأ كلَّ ما تصل إليه يدُك، فهي طريقةُ شيخنا الجاحظ، وليكنْ غرضُك من القراءة اكتسابَ قريحة مستقلّة، وفكر واسع، وملكة تقوى على الابتكار". (رسائل الرافعي|٢٢)
ويقول الكاتب الشهير ستيفن كينج في كتابه "عن الكتابة":
"أحدُهم يسأل ماذا تقرأ؟ وأسهلُ إجابة هي: "أقرأ أيّ شيء تقعُ عليه يدي".
إنّ القراءة والكتابة توأمان لا يفترقان، ولن نجد كاتبا ولا مفكرا ولا أديباً علا قدرُه، وسطع نجمه في سماء الكتابة، كان في خصام مع القراءة، بل القراءة هي الأب الروحي لأقلامهم والسرّ الكامن وراء إبداعهم.
إنّ من لم يقرأ طويلا ولم يجدّ في القراءة، فلن يكتب نصّا متميزاً، ولن يقدّم أثرا خالدا. وأنا أتعجب غاية العجب من الذي يريد أن يصبح كاتبا بارعا، وصاحب فكر عميق، وأسلوب كتابي جميل، وهو لا يؤمن بالقراءة وليس له حظّ منها وافرٌ.
إنّ القارئ الجيّد هو الكاتب الجيّد. وإنّ جودة الكتابة تكون بمقدار جودة القراءة، ونقرأ في أخبار الكتّاب المُبدعين أنهم إما كانوا يقضون أوقاتهم في الكتابة وإما في القراءة، يتعبون في القراءة فيبدؤون بالكتابة، وينصبون من الكتابة فيلجؤون إلى القراءة، يكتب أحدُهم ليلا، ويقرأ نهارا، أو يكتب نهارا ويقرأ ليلا.
قد قرأنا وسمعنا مرّات أن إمام الكتّاب والبلغاء الجاحظ كان دأبه أنه يقرأ كلَّ ما يقع تحت يده، ويستأجر دكاكين الورّاقين ويقضي ليلَه فيها قارئا. ومثل هذا يُحكى عن شيخ الإسلام ابن تيمية. ومشهور أن ويليام فوكنر الكاتب الأمريكي الشهير الحائز على جائزة نوبل، كان يعمل في مكتب البريد وقد طُرد من عمله بسبب القراءة في وقت العمل. وأخبر سقراط عن نفسه: أنه أنفق في زيت السراج أكثر مما أنفق في الشراب.
لا غنى للكاتب عن القراءة أيّا كان، والذين يقتحمون عالم الكتابة بلا قراءة موسّعة تؤهّلهم للكتابة، إنهم لا يقدّمون إلى القرّاء شيئا نافعا، بل كتاباتهم مجلبة شرّ وهمّ للقراء، وسبب فساد وبلاء للمجتمع الذي يفرضون عليه هذه الكتابات الهزيلة، إن الذي يكتب وليس له حظ من القراءة لا تشفي كتاباتُه القارئ، بل لا تشفي نفسَه كذلك لو كان لديه شعور صادق.
عندما اشتريتُ كتاب "٤٨ قانونا للسلطة" للكاتب الأمريكي الشهير روبرت غرين، أثارت جودةُ الكتاب فضولي للبحث عن معلومات مزيدة حول المؤلف الذي كتبُه هي من الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة، وخلال بحثي في غوغل، صادفتُ ما أذهلني! فقد وجدتُ له قولا في حوار وهو: أنّه يقرأ لتأليف كل كتاب من ٣٠٠ إلى ٤٠٠ كتابٍ كاملٍ! استوقفني هذا الكلام مشدوها مكهرَبا، وقلتُ في نفسي: أما عندنا فلو قرأ أحد أقلّ من هذا العدد طيلة حياته، نحن نعتبره قارئا نهِما، ويُشار إليه بالبنان! وروبرت يقرأ هذا العدد الكبير لكل كتاب يؤلّف! فعرفتُ أنّ سرّ نجاح هؤلاء يكمن هنا، وازددتُ يقينا أنّ الكاتب العظيم هو القارئ العظيم.
قد ذكر توفيق الحكيم الكاتب والأديب المصري، المعدود في روّاد الرواية والكتابة المسرحية العربية، أنه قرأ رُكاما من الموسوعات العلمية والأدبية العربية والغربية بحثا عن الأسلوب، فقال:
"لقد غرقتُ في آداب الأمم كلّها وفلسفاتها وفنونها، لم أكن أسمحُ لنفسي بأن أجهل فرعا من فروع المعرفة، لأنّي كنتُ أعتقد أنّ الأديب في عصرنا الحاضر يجبُ أن يكون موسوعيا، لذلك بذلتُ جهدي في أن أحيطَ بأبرز ما أنتجت العبقريةُ الإنسانية". (زهرة العمر| ٩٩).
أخي الكاتب والراغب في الكتابة، لو سردتُ أقوال هؤلاء الكتّاب المبدعين وأخبارهم وأسماءهم، الذين كان الكتاب رفيقهم الدائم، ونديمهم وسميرهم، يطول بنا المقام، ولا تُطيقه هذه العجالة، فأكتفي بما سردت، وأقول مُنهيا: إنّ الكاتب العظيم هو القارئ العظيم، والقراءه هي أمضى سلاح للكاتب بعد توفيق الله، ولا يُفلح الكاتب إلا إذا آمن بضرورة القراءة كالأكل والشرب والماء والهواء، ولا أجد لك نصيحة أفضل وأجدى من: "اقرأ".
سيد مسعود
إشراقة/ ٢٨ شعبان ١٤٤١