ماذا يعني أن تكون كاتبا؟!
قد يظن البعض من الذين لم يحدث لهم يوما أن يجربوا عملية الكتابة كأسلوب حياة، أن عمل الكتابة لا يتطلب من الكاتب أكثر من فكرة، فكل ما يحتاج إليه هو القلم والورق أو آلة للكتابة ولوحة المفاتيح (keyboard) أو الهاتف المحمول، لتدوين الفكرة التي راودته، دون أن يعرفوا أن الكتابة أكثر مما يظنون بكثير، فالكتابة تتطلب من الكاتب أن يضع نفسه في قوالب مختلفة، يسبك القالب حسب الموضوع الذي يختاره، كما تحتاج في ذات الوقت إلى أحاسيس ومشاعر فياضة، ولا يعرفون أيضا أن الكتابة تجعل الكاتب قادرا على التعبير عن المواضيع والمشاعر، بينا انهزم الكثيرون دون هذا الإنجاز.
في نظر هذا الفريق -لو نظر بالإيجاب- تبدو الكتابات أنها حصيلة أفكار قدمت في أسلوب رشيق، ولا يفكر في خلفية الكتابة وهي وجود كومة من الإحساس، فالمنسوج الذي وضع بين يديه في قالب الكلمات محبورة على الورق، مسبوك من الأحاسيس التي اعتملت في دواخله فترة، ثم إخراجها في هيئة الكلمات أيضا ليست بالسهولة التي يظنها فهناك أمر أصعب وهي الجرأة الكافية على القيام بهذا العمل، لا الجرأة المتبادرة إلى الذهن التي لا بد منها لبيان الأفكار والمعتقدات المثيرة والتي من شأنها صدم البعض وجر المشاكل، بل جرأة أعمق وأكبر وهي الجرأة على مصارحة نفسه، والدخول في بؤرة الأحاسيس التي لا تزول بعد نسج هذه الكلمات بل تبقى هناك في الذهن ترغو وتجيش، وأعتقد أن الكثير ممن لا يستطيعون الكتابة هم تعوزهم الجرأة الكافية على الخوض في وديان الأحاسيس، فهم لا يكتبون مخافة إفساد الأحاسيس وإخراجها على غير حقيقتها، لما يرى نفسه غير قادرة على اللإفصاح عما فيه! والكاتب يغامر مشيحا بوجهه عن الوساوس والمخاوف، مؤمنا أنه يحسن تجسيد الأحاسيس!
البعض لا يرى الكتابات غير حروف وكلمات متناسقة لها معنى أو ليس لها معنى أيضا، بينما هي في الحقيقة سهام تنطلق من كنانة ذهن الكاتب وقد جرحته قبل أن تجرح الآخرين، وهو غدا يشارك الآخرين في جروحه وآلامه!
الذي لم يخض الكتابة فهو يظن أن هؤلاء الذين قد اختاروا الكتابة أسلوب حياة هم أيضا يعيشون كالناس العاديين، وهذا خطأ كبير، فالكاتب يجعل من الشيء العادي الذي لا يشاهد الآخرون فيه ما يسترعي الانتباه، فرصة للكتابة، هو يرتب ما يعتمل في صدره من أفكار مستوحاة من المشاهد والقضايا التي يمر بها غيره دون وقفة أو أن يجدها مثيرة بالنسبة له، هو يفكر في عنوان مناسب لمقاله في أوقات وأماكن في مثلها لا يفكر في مثله، جالس مع الناس هم يستمعون إلى كلام وهو أيضا معهم، يشاركهم في الاستماع في الظاهر بينما هو يبحث عن تعابير وكلمات تسعفه في التعبير عن فكر اعترى عليه فجأة إثر المرور بموقف ما، هم ركزوا على الكلمات الملقاة بينما هو يجهد الفكر في صياغة الكلمات والتعابير التي تساعده على تقديم الفكرة بنحو أحسن وأعمق وأوفى، يأخذ الجوال ليسجل ما طاف عليه من الخيال، حتى يعود عليه في وقت لاحق ويكمله، والذين بحوله يظنونه لاعبا شاردا متلفا الوقت في غير ما يعني، الآخرون يتكلمون حول قضية تكتنف موقفهم السطحية والعبور، وهو أخذ في ربط الأفكار حولها ضاربا الأخماس بالأسداس للتوصل إلى نتيجة معقولة ورأي صائب. غيره يقرأ ويستمع وربما يتكلم لكن دون إمعان ودقة إشباعا للفضول، والكاتب يريد أن يكون مسمعا وموحيا ومبدعا كما هو في نفس الوقت قارئ ومستمع أيضا، يقفز أثناء النوم كأن به وخزا، وليس غير أن فكرة خطرت عليه يريد تدوينها قبل الضياع.
تقرأ كل هذا فتتراءى الكتابة لك عسيرا وطبعا تستصعبها، لكنك ما كنت لتظن هذا لو كانت لك تجربة مع العملية، فالكاتب يستمتع بهذا الأسلوب ولا يستبدل به أسلوبا، لأنه يستنشق الحرية من خلال الكتابة والأفكار التي يصوغها.