البلاغة في الكتابة
"كان ابن المقفع كثيراً ما يقف إذا كَتبَ، فقيل له في ذلك فقال: إنّ الكلامَ يزدحم في صدري فأقفُ لتخيّره!" (محاضرات الأدباء/ ۴۱)
ونصح ابن المقفع كاتباً فقال:
"إيّاك والتتبّع لوحشي الكلام، طمعاً في نيل البلاغة، فإنّ ذلك هو العِيّ الأكبر. (تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف ج٣|٥٢٢).
مهما كانت الكتابة وسيلة للفهم والإفهام، فالبلاغة هي التي تساعد على تحقيق هذا الغرض، لأنها في الاصطلاح: "مطابقة الكلام لمقتضى الحال". فالكلام البليغ هو الذي يراعي فيه الكاتب مقتضى الحال، فيعرف لمن يكتب، وماذا يناسب الذي يكتب له، يعرف متى يُوجز ومتى يُطنب، ويعرف مواضع الوصل والفصل، ويطبّق كلّ هذا في كتاباته.
يجب على الكاتب أن يسوق كلامه بوجه يفهمه المخاطبُ والمتلقّي، ويختار من الألفاظ ما يؤدي مغزى معانيه وأفكاره الذي هو بصدد إيصاله، ولعمري لو لم يهتمّ الكاتب بفهم المخاطب والقارئ، فلماذا يكتب؟!!
كان الجاحظ من أوائل الذين نبهوا إلى هذه الفكرة "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"
فقال في الحيوان:
"وليس الكاتب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه، حتى لا يحتاج السامع لما فيه من الرويّة، ويحتاج من اللفظ إلى مقدار يرتفع به عن ألفاظ السفلة والحشو، ويحط من غريب الإعراب، ووحشي الكلام، وليس له أن يهذبه جدا وينقيه ويصفيه، لأن الناس كلهم قد تعودوا المبسوط من الكلام، وصارت أفهامهم لا تزيد عن عاداتهم. (الحيوان ج١|٩٨).
إنّ البلاغة في الكتابة هي أن يجمع الكاتب بين الجزالة والوضوح والإيجاز، ويختار الألفاظ السهلة مع تجنب الألفاظ الساقطة والمبتذلة، وما يعبّر عنه بألفاظ السفلة.
إن البلاغة في الكتابة هي أن يختار الكاتب ألفاظا لمعانيه لا معاني لألفاظه، وبعبارة أوضح: أن يجعل ألفاظه تابعة لمعانيه، لا أن يجعل معانيه تابعة لألفاظه، وأن يزهد في استخدام الألفاظ الغريبة والحوشية. وما أحسن ما قاله أستاذ الكتّاب عبد الحميد الكاتب
"خيرُ الكلام ما كان لفظُه فَحلاً ومعناه بِكراً".
غني عن القول أن الكاتب المبتدئ يعزّ عليه تطبيق الشروط البلاغية في كتاباته، بل لو عزم على السير وفق هذه الشروط من البداية، ربما تكون النتيجة هي ترك الكتابة وإلقاء حبلها على غاربها. ولكن عليه أن يرمي إلى هذا المرمى، ويسوق كتاباته إلى هذا المسار من شيء إلى شيء، ويُكثر القراءة في كتب البلغاء القدامى والمعاصرين، وليجعل نصب عينيه بأنه يكتب ليُفهِم، نفس هذه الفكرة تساعده في هذا المجال، وتهدي كتاباته إلى حمى البلاغة مع الوقت.
لكي يعرف الكاتب عناصر البلاغة يجب أن يكون له إلمام بالكتب المؤلّفة في هذا المجال، ومن أحسنها وأشهرها "أساس البلاغة" للزمخشري، وهو الكتاب الذي قد تخرّج فيه الأدباء والبلغاء على مرّ العصور، ونجد في وصاياهم تأكيدا مكرّرا على وضع هذا الكتاب في الاعتبار لكل من يريد أن يصبح كاتبا مرموقا. غير أنه يناسب المنتهين والواصلين، وربما تتقاصر فهوم المبتدئين عن إدراك مراميه. مما جعلني أقتبس عناصر البلاغة من كتاب "البلاغة العربية" للشيخ عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، لأنقلها هنا بتسهيل وإيجاز، حتى يتمكّن الكاتب المبتدئ من ملاحظتها في كتاباته وهو لا يقدر على تتبّعها في المطولات.
"إن عناصر البلاغة العربية تتمثّل في سِتّة أمور هي:
الأول: الحرص على الإتيان بالقواعد النّحويّة والصّرفيّة على أكمل وجه مع حُسن اختيار المُفردات الفصيحة لها.
الثّاني: الابتعاد عن الخطأ في إيراد المعنى.
الثّالث: الابتعاد عن أيّ تعقيد لفظيّ أو معنويّ لا يُوصل إلى المعنى المقصود.
الرّابع: حُسن اختيار المُفردات التي تحمل حِسّاً وجمالاً.
الخامس: انتقاء الجميل من المقاصد والمعاني وترجمتها من خلال ألفاظ تحمل طابعاً جماليّاً.
السّادس: تدعيم الكلام من خلال استخدام المُحسّنات البديعيّة التي تُزيّنه وتجذب المُتلّقي.
(البلاغة العربية ج١| ١٣٢-١٣١ بتصرّف)
سيد مسعود
إشراقة/ ١ رمضان ١٤٤١