العفويّة في الكتابة
قال بعض البلغاء: "أُحذّركم من التقعير والتَعمُّق في القول وعليكم بمحاسن الألفاظ والمعاني المستخفّة والمستملحة، فإنّ المعنى المليح إذا كُسي لفظًا حسنًا وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا كان في قلب السامع أحلى ولصدره أملأُ". (جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب ۱|۱۹)
إنّ العفوية أصل مهمّ في الكتابة يضفي عليها الجمال والروعة، والكتابة معها واجدة موضعها، وسالكة طريقها. وهي مما يجعل المكتوب أكثر قربا إلى القلوب، فالنابع من القلب يدخل فيه.
العفوية هي أن يُطلِق الكاتب نفسه تنسج على سجيّتها، وتعبّر عن الأحاسيس والكوامن تعبيرا صادقا، بعيدة عن حواجز التصنّع التي تشوّه جمالية المشاعر.
إن دافع الإحسان في الكتابة هو الذي يدفع الكاتب إلى التكلف، فهو يظن أن طابع التكلف يجعل المكتوب أكثر روعة وحسنا ولفتا للأنظار ووقعا في القلوب، لكنه ظنٌّ يعارض الحقيقة، فالروعة والتأثير والإمتاع تلتقي في الكتابة الطبيعية العفوية لا المتكلفة.
إننا بالتدقيق في سرّ تفوّق الكتّاب المبدعين الكبار الذين قد أجمع القوم على قبولهم، أمثال: الجاحظ، وابن المقفع، وسهل بن هارون، وإبراهيم الصولي نتوصّل إلى أنّ السر الوحيد في تميّزهم والقاسم المشترك بينهم هو خلوّ كتاباتهم من التكلف واعتمادهم على عفو القريحة ووحي الساعة.
الكاتب الذي يترك العفويّة ويقبل على التكلّف ليتفقّد فيه الجمالَ، هو قد ترك ما يبغيه خلفه ثم جاء يبحث عنه بلا جدوى. فالجمال الطبيعي معقود بالعفوية وما يبحث عنه لاهثا هو الجمال التصنعي الذي تعافه الطباع السليمة. فالغانية الجميلة المليحة تستغني بطبيعة جمالها عن كثرة حليِّها، وكذلك الكتابة حينما تكون طبيعية فهي مستغنية عن التصنع، و"لَيسَ التَكَحُّلُ في العَينَينِ كَالكَحَلِ".
التكلف في الكتابة من باب لزوم ما لا يلزم والكاتب بالركون إليه يعسّر عليه عملية الكتابة، وجهوده في تحقيق غايته تذهب هباء؛ لأن غايته الإحسان في الكتابة، وهو في ترك التكلف! ثم القارئ لا يكاد يُعجِبه شيءٌ في الكاتب بمقدار ما يعجبه صدقه، والتكلف مما يبعد الكاتب عن حمى الصدق ويورّطه في مستنقع الكذب.
فلو كان بودّ الكاتب تحقيق الحسن والروعة لكتاباته ووقعها في نفس المتلقّي فإياه والتكلف، وإنما عليه أن يكتب بطريقة عفوية خاليّة من التكلّف، ويدع القريحة تجود، ويطلق النفس تعبّر تعبيرا صادقا.
وما أحسن ما قال البُستي:
إذا انقادَ الكلامُ فقدْهُ عفوًا
إلى ما تشتهيه من المعاني
ولا تُكـرِه بَيَانَك إن تأبَّى
فلا إكراه في دين البيـان
????سيد مسعود
إشراقة/ ١٢ رمضان ١٤٤١