لغة الكتابة، هل هي لغة جديدة؟
سألني: لماذا لا أستطيع إيصال فكرتي إلى الناس بكتابتي؟
قلت: لأنك لا تعرف لغة الكتابة.
قال: وهل للكتابة لغة غير اللغة التي أحدثك بها وتحدثني.
قلت: نعم، بل هناك لغة ثالثة غيرها..!
قال: لقد أوقعتني في حيرة، فسّر لي ذلك.
قلت له موضحا: إن الإنسان يحاور نفسه، وكذلك يحاور من يراهم ويخاطبهم، وكذلك يتحدث إلى الذين لا يراهم، فهو يحاور نفسه بلغة، ويحاور مخاطَبه بلغة، ويحاور من لا يراهم بلغة، فمحاورته نفسَه هي (التفكر)، ومحادثته الذين يخاطبهم بلسانه هي (الحوار والتخاطب)، والتحدث إلى من لا يراهم ولا يخاطبهم هو (الكتابة).
فأنت عندما تخاطب نفسك، لا تخشى وقوع سوء الفهم فيما بينك وبين نفسك، ومن ثَمّ لا تحتاج إلى لغة ذات قواعد نحوية وأصول صرفية فلا تضطر إلى رفع الفاعل ونصب المفعول أثناء تفكرك في قضية.. فعندما تتفكر في مجيء محمد، يكفيك أن تقول لنفسك: "جاء"، والنفس تعرف من الذي تتحدث عنه، ومن أين جاء؟ فهذه لغة التفكير. إذا استوعبت هذا.. فتفكر معي: لو بدأت تخاطب الناس بلغة التفكر، ماذا سيحدث؟ سيحدث العجب.. عندما تذهب إلى أحد وتبدأ محادثته قائلا: "هات!" أو تقول: "من؟" سينظر إليك حتما بنظرات مستغربة، ويسألك: "ماذا أعطيك؟" و "ماذا تعني بقولك: من؟".
فاللغات ثلاثة: لغة التفكر، لغة المحادثة، لغة الكتابة.
لغة التفكر مستغنية تماما عن الوصل والفصل والنحو والصرف وأية قواعد لغوية وبلاغية.
ولغة التخاطب محتاجة إلى القواعد اللغوية، ولكنها قادرة على التعبير عما في الضمير باستعانة الإشارات التي تقع أثناء الكلام، وغنية بالإجمال عن التفصيل في أغلب الأوقات بفضل سياق الكلام ودلالة الحال.
أما الكتابة، فليس بينك وبين مخاطبك إلا حروفك المكتوبة على ورقة، وليست ههنا لديك من أدوات التعبير إلا تلك الحروف، فالإشارات معدومة، وتعابير الوجه مفقودة. وكثيرا ما يخطئ الكاتبون فيكتبون بلغة الحوار، و الواجب أن يكتبوا بلغة الكتابة. وينتج من ذلك نقص في التعبير، وإخلال في مكان يتطلب التفصيل، وإطالة في مكان يدعو إلى الإيجاز.
استوف معناك جيدا يا صديقي، وانتق الكلمات بإتقان، وجرب الألفاظ واحدا واحدا إلى أن تختار أفضل الكلمات وتركّب منها أفضل الجمل، وتكوّن منها أفضل الفقرات والمقالات.