كيف تتقن اللغة العربية إتقانك اللغة الأم؟
ما أكثر الطلاب السائلين في هذه الأيام: كيف نتعلّم اللغة العربية؟ أو كيف نتقدّم فيها؟
إنّ ما نجده اليوم في مدارسنا الدينية من إقبال الطلاب والدارسين على اللغة العربية بعد ما مُني رَبعُها بالجدب والإمحال بحیث لا تصيبُه ديمةٌ، يمكننا اعتباره بحد ذاته نهضةً وحركةً -ولله الحمد-. فقد وجد اللسان العربي مؤخرا رواجا بين الطلاب والمدرسين وأنصارا وأعوانا، بعد ما بار، وولّى أنصاره الأدبار.
كانت رغبة الطالب في تعلم اللغة العربية سابقا أمرا عجبا، والذي كنتَ تراه مزمعا على هذا الأمر نادر، وأما الآن فقد اعشوشب القفر، وزاد النتاج، وكثر الراغبون وازداد المجدّون. وكثيرا مّا أواجه وأنا أفتح الهاتف المحمول رسالةً في التواصل، موجّهة من طالب يدرس في هذه المدرسة أو تلك: كيف أتعلم اللغه العربية ؟! وكيف أجيد الكتابة بها ؟! وقد يكون السائل مدرّسا في مدرسة ما، وهذا بنفسه دليل على أن العربية بدأت تغزو المدارس وتشق إليها طريقها، مما يحمل رسالة سارّة للأساتذة المخلصين المجتهدين والجهابذة الموجّهين في هذا المجال بأنّ فسيلة الآمال قد أثمرت، وجهودهم بدأت تكلّل بالنجاح، كما يحمل بشرى لجميع الناشطين في هذا الحقل بأنّ تباشير الصبح لائحة.
وعند الحديث عن هذا السياق لا يمكننا إنكار ما لشبكات التواصل الاجتماعي من دور فيما نشهده، فقد سهّلت هذه المجموعات والقنوات والصفحات الإلكترونية التواصل، وأوجدت منصّات كتابية للمدرسين والطلاب على حد سواء، ومن ثمّ مهّدت للتنافس بين الطلاب، وحشرتهم في سباق كتابيّ محموم، تحت إشراف الأساتذة. ويا حبّذا لو أحسِن استخدامها.
على كل، جعلتني الأسئلة المطروحة من هنا وهناك أقوم مقام الرد، ولعله ينفع الآخرين أيضا كما ينفع السائلين. إن شاء الله.
رغم أنّ هذا الملف متشعب مترامي الأطراف، مما يجعل التعرض له صعبا في مثل هذه العجالات في الواقع الافتراضي، ولكنني أحاول جهدي لتناوله بقدر الإمكان.
أريد أن أبدأ كلامي ببثّ شكواي أوجهها إلى أكثر هؤلاء الإخوة، في أنهم يبحثون دائما عن طريق توصلهم إلى اللغة العربية خلال أقصر مدة ! يريدون طيّ الطريق وتعلم اللغة بين عشية وضحاها! كأنهم يسعون لإيجاد طريق خفيت على الآخرين ولم يهتدوا إليها! (نزولا إلى طبيعة العصر وتأثرا بدعايات مزيفة) ثم بعد انقطاع الرجاء عن العثور على الطريق المذكور يستولي عليهم اليأس فينسحبون ! هذا المشكل ما أتفهّمه من خلال الأسئلة التي قد توجّه نحوي في هذا المجال، وهنا أريد أن أُطمْئن إخوتي وأعزائي بأن هذا الطريق أعز وجودا من «الأبلق العَقُوق» كما يقول المثل السائر، فلا تتعبوا أنفسكم في البحث عنه. فالطريق الأسطوري الذي قد عشّش في أذهاننا لا نجده ولو حاولنا جهدنا وما يتراءى لنا في هذا المجال هو نتيجة لفيضان الخيال وما هو إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.
إذاً -قبل البدء-لا بد من الاقتناع بقطع الطريق السوي للوصول إلى هذه البغية. ومهما كان الأمر هكذا، فخذ الجواب صُبرةً، واكتف بها خُبرةً.
هناك مهارات أربع لا بد من العناية بها في مجال إتقان لغة من اللغات وهي:
١- الاستماع
٢- الحوار
٣- القراءة
٤- الكتابة.
نحن نكتسب لغتنا الأم أيضا بهذه الخطوات الأربع وبنفس هذا الترتيب الذي أوردته هنا.
فأول شيء يرفد الطفل في تعلم اللغة الأم هو كثرة الاستماع، وما يقرع سمعه من الكلمات المتبادلة في البيت، والوالدان يلقّنانه في بادئ الأمر كلمة كلمة ونجمة نجمة، يؤثر في الطفل هذا الإسماع الحثيث فينهد للتلفظ شيئا فشيئا. وهبْ أن الطفل لم يتأثر بالتحدث المستمر وينسجمْ مع الوالدين في التكرار والترداد فهو لا يتعلم اللغة ولا يتقدم دون شكّ!
ثم عندما يتقدم به العمر سنوات، يعلَّم القراءة في تلك اللغة، وهو مازال في نعومة أظفاره، يبدأ بالحروف ويمر بالمفردات ويصل إلى التراكيب السهلة التي تلائم طبيعته الصبيانية، ويجتاز بالتراكيب الصعبة وكل ذلك بشيء من البطء والإمعان والدقة والاصطبار. وعندما يبدأ بالقراءة بجنبها يكلَّف على إمساك القلم بين الأصابع ومحاكاة ما يجده مكتوبا في الكتب، بدءا بالحروف كما كان الأمر في عملية القراءة ! فها قد برى القلمَ وقطّ؛ ثم احتجر اللوح وخطّ.
بهذه الخطوات والمهارات يتعلّم الطفل لغته الأم ويُتقها إتقانا، وما تعلم كل واحد منا لغته الأم والقراءة والكتابة بها إلا بقطع هذه المراحل. ومن الذي لا يتقن لغته الأم ؟! والجواب: ليس أحد. فالجميع يتقنها إتقانا ولا يواجه أي مشكلة فيها ! ولماذا؟ لأنه تعلمها عبر هذه الطريقة الناجحة العالمية التي تلقته الدنيا بالقبول والانقياد في اللغات كافة.
طبعا هناك بعض فروق بين اللغة الأم واللغات الأجنبية، إذ من المعلوم أن الأسباب لتعلم اللغة الأجنبية لا تتوفر توفرها في البيت لدى الطفل، هذا من جانب ومن جانب آخر لا يستغني أحدنا عن هذه المهارات الأربع إذا أراد إتقان لغة بالكامل إتقانه لغته الأم، فلا محيص عن الأخذ بالمهارات جميعها، في معرض إرادة إتقانها، إذاً فلا بد من تقديم بدائل مناسبة.
فأولى المهارات كانت الاستماع، والاستماع المباشر ربما لا يتيسر لنا من الناطقين بتلك اللغات من خلال معايشتهم، إلا أن الأمر سهّلته التكنولوجيا الحديثة حيث مكنتنا من بديله وهو مشاهدة الأفلام والفيديوهات في أي لغة شئنا عبر القنوات وشبكة الإنترنت.
وأما في الحوار والتحدث فيمكن تلافيه بتخاطب جمهور من المستمعين يحسنون تلك اللغة(ولو من الناطقين بغيرها) والتحدث إلى الناس فرادى وأزواجا.
وأما القراءة فتتحقق عبر المطالعة في الصحف والكتب والمجلات في تلك اللغة.
والكتابة كذلك متيسّرة خاصة مع توافر هذه الشبكات، وذلك بالممارسة الدؤوبة وتأليف الكتب وكتابة المقالات الطويلة والقصيرة في اللغة المعهودة.
وأما الذي يريد إتقان مهارة من لغة دون أخرى(من المهارات الأربع) فهذا ما لسنا فيه لأن الراغبين في تعلم اللغة العربية من طلابنا يريدون إتقانها بالكامل، حسب علمي وما يفهم من فحوى أسئلتهم وأسلوب استرشادهم، ولأنهم يحبونها ويعتبرون تعلمها دينا.
أخي الطالب السائل والراغب، اسلك هذه الجادة المعبّدة البيضاء الواضحة المعالم، فهي تنتهي إلى مرامك، اسلكها -أرشدك الله- و لا تذهب في السبل يمنة وشامة، ولا تظن الحباحب نارا والسراب ماءً، ولا تخض الطرق الملتوية التي يضل بها الخرّيت، فتنسحِب قانطا صفر اليدين.
والله الموفق
سيد مسعود/ ١٩ ذو الحجة ١٤٤٠