الكتابة بين التيسّر والتعسّر
مخطئ من يتوقّع أن تكون له الكتابة سهلةً مستساغةً دائما، يجد القلم ذلولا، والكلماتِ منثالةً، والأفكارَ منقادة، لا يواجه تعسّرا في الكتابة، ولا جموحا في القلم، ولا إمساكا للكلمات، ولا شُحا في الأفكار.
الكثيرُ ممّن يُبدون رغبة في الكتابة يشكون أنهم يعانون في صيد الأفكار والخواطر، ورصف الكلمات والتعابير، يجدون القلم يوما يجري سهلا سَجْسَجا، ويوما آخر يجمح ولا يكاد يجري، وكافة المحاولات دون تسييره تبوء بالفشل.
يُغمِد أحدُهم القلمَ عندما يجد الكتابة على هذه الحالة العسيرة، فرارا من المعاناة، اعتقادا منه أن الكتابة من الضروري أن تكون في وقت فيضان الخاطر، وسيلان القلم فقط، وبوصف لا يواجه الكاتب أي معاناة لا في استخدام الكلمات ولا في تلقّي الأفكار، ولا تأخذ عملية الكتابة منه وقتا طويلا، وهو يجهل أن ترنّحَ الكتابة بين التيسّر والتعسّر قانونٌ لا يُستثنى منه أكبر الكتّاب والأدباء.
يقول الكاتب والفيلسوف البريطاني الشهير، الحائز على جائزة نوبل للآداب، برتراند راسل (ت1970م) في مذكراته:
"كنتُ أجلس كلّ صباح وأمامي ورقة بيضاء، أمضي النهار كله باستثناء فترة قصيرة للغداء مُحَمْلِقا فيها، وعندما يحلّ المساءُ تكونُ الورقةُ في معظم الأحيان ما زالت بيضاء على حالها، وكان يبدو محتملا جدا أن تذهب البقيةُ من عمري في الجملة في تلك الورقة البيضاء". (مذكراته|٢٣٦)
لكن راسل هذا لم يستسلم أمام هذا المزاج، بل واصل الكتابة بكل قوة، حتى تغلّب عليه، وانفكّت العُقدة، وكان يكتب يوميا ما بين عشر أو اثنتي عشرة ساعة، وجاءت نتيجة هذه الكتابات مخطوطا عظيما عندما ذهب به إلى المطبعة كان لابد أن يستأجر عربة ذات أربع عجلات لحمله! كما يخبر هو في مذكراته. قد رحّب راسل بالمعاناة يتجشّمُها ساعات وربما أياما متتابعات ولا يرضى بإغماد القلم، حيث يقول في موضع آخر من مذكراته:
"وجدتُ مثلا أنه لو كان عليّ أن أكتب في موضوع صعب فإنّ أفضل خطة أن أفكّر في الموضوع بتركيز شديد، وبأقصى تركيز أستطيعه لعدة ساعت أو أيام".
ويقول الأستاذ الكاتب محمد حامد الأحمري في مذكراته|٢٦٧:
"إن مزاج الكتابة صعبُ الاستدعاء للعمل، وقد ذكرتُ مرة لشقيقي أنّني في مرحلة كتابة الرسالة أضع الأوراق والمراجع بين يديّ، وأجلس ثماني ساعات تقريبا، ولا أستطيع أن أخطّ كلمةً واحدة، فاستغربَ وسكتَ عن ذكر هذه الحالة لأحد؛ خشيةَ أن تكون حالةً مرَضيةً يقولها عني مَن لا يدري بصعوبة مزاج الكتابة. وأحيانا يأتيني مزاج رائع للكتابة فأكتب من الليل حتى أسقط متعبا".
أجل، تعتري الكاتبَ حالةٌ يكون فيها بناء الكلمات أتعب بكثير من بناء الحجارة، وابتكار الصور واشتقاق المعاني أصعب من شقّ الصخر، بيد أن الكاتب لا ينبغي له أن يتهيّب هذه الحالة، إذ هذه المعاناة هي التي تُفضي إلى الإبداع. كما قال الفيلسوف الألماني شوبنهاور:
"الإبداع وليد المعاناة، ولا إبداع بدون معاناة".
إن الأثر المترتّب على إنتاج الكاتب وقيمةَ عمله تكون بمقدار ما يتعب فيه أو يهيء له نفسه ويعطيه وقته وفكره، وإن المعاناة التي يلقاها الكاتب هي في الحقيقة آلام مخاض الإبداع، وعليه أن يستمر في استمالة القلم، غير مبالٍ بالساعات التي تنقضي، يستدرّ ضرع الكشف، ويطرق باب المجهول، ويستجلي كوامن الإلهام.
ليعرف كلّ من يمارس الكتابة أنّ الكاتب لا تستمر حالته مع الكتابة كما يروم هو، فدوام الحال من المحال، وقد تجري الرياح بما لا تشتهيه سفنُه، تأتيه الفكرة ساعة، وتكفّ ساعات، يجري قلمه تارةً ويجمح تارات، وتنثال عليه الكلماتُ مرةً وتنقطع مرات. غير أنه ليس مما يبعث على القلق فحسب بل مؤشر خير ينبغي أن يتفاءل الكاتب به فيما لو أراد لكتاباته أثرا، ولأسلوبه نضجا، ولفكرته عمقا، وأراد البلوغ إلى درجة الإبداع، لأن المعاناة هي التي تتمخض عن الإبداع، وليعرف أن الكتابة بين التيسّر والتعسّر.
وما أحسن ما قاله فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، أبو حيان التوحيدي -رحمه الله- :
"إن الكلام صَلِفٌ تيّاهٌ[متكبر] له أرَنٌ [نشاط] كأرن المُهْر[أَوَّلُ ما يُنْتَج من الخيل والحُمُر الأهلية وغيرها] وإباءٌ كإباء الحَرون[الفرس الجَمُوحُ الذي يَرْفُضُ الانْقياد]، وزهوٌ كزهو الملك، وخفق كخفق البرْق، وهو يتسهّل مرة، ويتعسّر مرارا، ويذلّ طورا، ويعزّ أطوارا". (الإمتاع والمؤانسة|٩)
سيد مسعود
إشراقة/ ٢٦ شعبان ١٤٤١