الإيجاز في الكتابة

قال أبْرَوِيزُ لكاتبه:

"اجمع الكثير ممّا تريدُ في القليل ممّا تقولُ". (أدب الكاتب|١٩)

وفي البيان في التبيين:

"قال لي ابن الأعرابي: قال لي المفضّل بن محمد الضبّيّ: قلتُ لأعرابي منّا: ما البلاغة ؟ قال لي: الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل. قال ابن الأعرابي فقلتُ للمفضّل: ما الإيجاز عندك؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد.

قال ابن الأعرابي قيل لعبد الله بن عمر: لو دعوتَ الله بدعواتٍ، فقال:

اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا! فقال له رجل: لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن. فقال: نعوذ بالله من الإسهاب". (١|٩٧)

إن الإيجاز -كما تقدم- حذف الفضول من الكلام، وجمع الكثير ممّا يريد الكاتب في القليل مما يقول. والكاتب البليغ هو الذي يوجز في غير عجز، ويُطنِب في غير خطل.

يظن الكثير أن الإيجاز هو الاختصار، غير أنّ الأمر ليس كما يظنون، إذ الإيجاز لا يعني قلة عدد الحروف والألفاظ، بل يعني خلو الكلام من الحشو مع ملاحظة مقتضى الحال، فليس كل كلام مختصر موجزا، كما أن البلاغة لا تعارض الإطناب إذا اقتضته الحال، ومن ثم فيجتمع الإطناب والبلاغة في كلام واحد.
كما تتحقق البلاغة في الإيجاز تتحقق في الإطناب، فكل منهما مطلوب محمود في موضعه، والكاتب يُقِلّ في موضع يقتضي الإقلال، ويطيل في موضع يقتضي الإطالة، فالقرآن قد أطال تارة للتوكيد، وحذف تارة للإيجاز، وكرّر تارة للإفهام وهو في الذروة العليا من البلاغة بلا شك، فالإطالة في موضعها ليست بخطل كما أنّ الإقلال في موضعه لا يُعدّ عجزا.
تجريد الكلام من الحشو، وإخراجه بالمقدار الذي يُحتاج إليه إيجاز، فما فضل عن المقدار فهو الخطل، ولكن لينتبه الكاتب أن الموقف خطير يقتضي منه الدقة الفائقة لكي لا يحذف من الكلام ما يكون سببا لإغلاقه. بل يقلّ فلا يخلّ ويُطنِب فلا يملّ. و"خير الكلام ما قلّ ودلّ".

بما أنّ الكلام يجرّ الكلام عادة، يجب على الكاتب أن لا يغفل عن أهمية الإيجاز، لأن الطول والحشو مما يقتل المقال، وقد قيل: "لا تجعلوا اللغة لغوا، إن الحشو كان للكلام المستقيم عدوا مبينا". والكاتب الذكي لا يسمح للطول يقتل نصّه لتذهب جهوده سدى. ومن المجرّب أن الكاتب قد يبدأ في الكتابة ناويا كتابة أسطر معدودة، ولكن تدبّ إليه الحرارة بعد الشروع، فلا يرغب في التوقف بل يريد أن يكتب ويكتب فيطيل ويطيل.

والجاحظ له كلام مليح وتشبيه بليغ في هذا المعنى وهو يقول:

"ولْيُعلَم أنَّ صاحبَ القلم يعتريه ما يعتري المؤدِّبَ عند ضربه وعقابه، فما أكثر مَن يَعزِم على خمسةِ أسواط فيَضرب مائة! لأنَّه ابتدأ الضربَ وهو ساكنُ الطِّباع، فأراه السُّكونُ أنَّ الصوابَ في الإقلال، فلما ضرب تَحرَّك دمُه، فأشاع فيه الحرارةَ، فزادَ في غضَبِه، فأراه الغضبُ أنَّ الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلَم؛ فما أكثرَ مَن يبتدئ الكتابَ وهو يُريد مقدارَ سطرين، فيكتب عشرة! والحفظُ مع الإقلال أمكَنُ، وهو مع الإكثار أبعَدُ". (الحيوان١| ٨٨)

سيد مسعود
    إشراقة/ ١٤ رمضان ١٤٤١

السيد مسعود

مدرّس في قسم معهد اللغة العربية بجامعة دار العلوم زاهدان- إيران
مجموع المواد : 50
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024