الاستغراق في الكتب!

عندما قرأتُ الطُرفة المشهورة التي وردت في سيرة الجاحظ وهي قوله: "نسيتُ كُنيتي ثلاثة أيام، حتى أتيتُ أهلي، فقلتُ لهم: بِمَ أُكَنَّى؟ فقالوا: بأبي عثمان". تعجبتُ غاية العجب، ولم أستطع التصديق، وقِستُه على القصص الأخرى والنوارد التي لا أساس لها وهي إلى الأساطير أقرب منها إلى القصص الواقعية، وما أكثرها في كتب الأدب وفي صدرها كتاب "ألف ليلة وليلة".

خلتُ أن هذه النادرة المنسوبة إلى الجاحظ أيضا من طراز ما ضمّه "ألف ليلة وليلة"، متسائلا: هل يمكن أن يشتغل أحد بالكتب والقراءة والمطالعة لحد أنه ينسى كُنيتَه التي يُعرف بها ويُنادى ؟!

ثم فيما بعد وأثناء مشواري في المطالعة وجدتُ بعض الكتب الموثوق بها تذكر قصصا مشهورة لها سند ويرويها من هو ثقة، وهي تماثل ما وقع للجاحظ، مما أزال الاستغراب الذي سيطر عليّ، وأمسيتُ لا أعجب مما نُسب إلى الجاحظ من نسيانه كُنيته!

فهذا هو القاضي عياض- رحمه الله- أورد في "ترتيب المدارك" في ترجمة الإمام محمد بن سُحنون القَيرواني -رحمه الله- "أنه كان له جاريةٌ يُقال لها أمّ مُدام، فكان عندها يوما، وقد شُغل في تأليف كتابٍ إلى الليل، فحضر الطعامُ، فاستأذنتْه فقال لها: أنا مشغولٌ الساعةَ. فلما طال عليها الانتظارُ، جعلتْ تلقّمه الطعامَ حتّى أتى عليه، وتمادى هو على ما هو فيه، إلى أن أُذّن لصلاة الصبح، فقال: شُغلنا عنكِ الليلةَ يا أمَّ مُدام! هاتِ ما عندكِ، فقالت: قد- والله يا سيدي- ألقمتُه لك، فقال: ما شعرتُ بذلك!" (٤| ٢١٧).

 كما ذكر العلّامة عبد الفتاح أبو غدّة -رحمه الله- في كتابه الرائع "صفحات من صبر العلماء" عند الحديث عن عالم من العلماء أنه كان منشغلا بتحقيق مسألة، فقال لغلامه بعد ذلك: ناولْني نعلي، فقال له الغلام: نعلُك في رجليك يا مولانا!.

  وأما قصّة الإمام مسلم صاحب "الصحيح" في أخذ التمر من السلّة وتناولها تمرةً تمرةً في ليلة من الليالي، وهو يبحث عن حديث، إلى أن وجد الحديثَ وقد أتى على ما في السلّة من تمر ! فهي قد سارت مسار التواتر، وذكر البعضُ أنّ ذلك كان سبب موته!

وعليه فلا نستطيع أن نصنّف هذه الوقائع والقصص كلها في الخرافات والأساطير، ولا يبقى للشك مسرح ولا للجدل مطرح في أنها قد وقعت، وجدير بالذكر أنّ خبر الجاحظ أيضا قد ذكره إمام المحققين عبد السلام هارون، في مقدمة تحقيقه للبيان والتبيين، الأمر الذي يجعل الصدر يطمئن. وإن ما ذكرته هنا ليس إلا بعض النماذج في هذا الباب، فالوقائع فيه ليست قليلة وهي مذكورة في كتب التواريخ والتراجم.

هؤلاء كانوا رجالا فنوا في العلم والمعرفة، وهم ينذهلون ويستغرقون في الكتب عند تناولها، بحيث ينفصلون عن الناس ولا يعرفون ماذا يجرى لهم.

يجدر بنا -ونحن نمرّ بمثل هذه القصص- أن نبادر نحن كذلك بتقييم حالتنا في المطالعة وعلاقتنا مع الكتاب، وقياس أحوالنا على أحوال هؤلاء المستغرقين الذاهلين. وقد صرنا يشقّ على أحدنا إبعاد الهاتف الذكي عنه أثناء المطالعة، هذا إذا وفّق للمطالعة! فلا يقرأ بضعة أسطر إلا ويطلّ على الهاتف لينظر ماذا هناك!والإشعارات المتواصلة تُشعره بوصول الرسائل والبيانات الجديدة في شبكات التواصل الاجتماعي!

 

سيد مسعود

إشراقة/ ٩ شعبان ١٤٤١

السيد مسعود

مدرّس في قسم معهد اللغة العربية بجامعة دار العلوم زاهدان- إيران
مجموع المواد : 50
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025