الأدب

يقول ابن قتيبة الدِّينَوَري في مقدمة كتابه "أدب الكاتب": "ونحن نستحبّ لمن قَبِل عنّا، وائتمّ بكتبنا، أن يؤدّب نفسَه قبل أن يؤدّب لسانَه، ويهذّب أخلاقَه قبل أن يهذّب ألفاظَه، ويصَون مروءَتَه عن دَناءة الغِيبة، وصناعتَه عن شَين الكَذِب، ويُجانِبَ -قبلَ مُجانبتِه اللحنَ وخَطَلَ القولِ- شنيعَ الكلامِ ورَفَثَ المَزْحِ". (أدب الكاتب|١٤)

ولكي نعرف مكانة كتاب "أدب الكاتب" جيدا فهو ذلك الكتاب الذي عدّه ابن خلدون في الرتبة الأولى عندما ذكر أصول الأدب في مقدمته الموسوعية، بقوله: ”سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أنّ أصول فنّ الأدب وأركانه أربعة دواوين: وهي كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة الدّينوري، وكتاب "الكامل" للمبرد، وكتاب "البيان والتبيين" للجاحظ، وكتاب "النوادر" لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبعٌ لها وفروعٌ منها”.

ليس الأدبُ في معناه الأصلي كما فهم الكثير من الناس، تأليفَ ألفاظ، ورصفَ أفكار، وجزالة تعابير، والبوح بالمشاعر، وتطريز الخيال، وتمتع الكلمات بالبلاغة، وسلامتَها من التكلف والتعقيد والأخطاء الصرفية والنحوية فحسب.

 والطريف أن جميع الكتب المؤلفة في "تاريخ الأدب العربي" قديما وحديثا، في سياق الحديث عن معاني لفظة "الأدب" قدّمت الخلقَ النبيل الكريم، وتهذيب النفس، وتعليم المرء ما أثِر من المحامد والمعارف، على معانيها الأخرى، فاللفظة كانت تُستعمل عند العرب في الجاهلية والإسلام بهذه المعاني، ثم توسّعت دلالاتها مع الأيام تدريجيا إلى أن أصبحت تدل على ما عليه اليوم من هذا المدلول الشامل.

إن الأدب إضافةً إلى جزالة الألفاظ، ورشاقة التعبير، ودقة المعنى، ورهافة الحس، وروعة الأسلوب، وعمق المعنى، يتطلب من صاحبه النبلَ والكرم والسلوك الحسن، والصدق، والمروءة، ودماثة الأخلاق، وأدب الخطاب. والذي يعوزه الأدبُ والنبل والأخلاق ورصانة الألفاظ، ليس بأديب، مهما فاق في ميدان الكتابة، وأصبح قلمُه يجري جريَ الماء، ويرقّ رقة الهواء.

 ومن ثَمّ يجب على كل يدخل ميدان الأدب العربي أن يؤدّب نفسَه قبل أن يؤدّب لسانَه، ويهذّب أخلاقه قبل تهذيب ألفاظه. وكيف يسمي نفسه أديبا من يتخذ الروايات وسيلةً لنشر المجون، والإباحية، وترويج الدعارة، وإشاعة الخلاعة، أكرمكم الله؟ والأدب بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

فلينظر المتأدّب وطالب الأدب العربي ماذا يقرأ، وممّن أو ممّ يأخذ أدبه وصياغة تعابيره، وليعدّل فهمه ونظره في الأدب، حتى يلتمس الأدب في مظانّه ومصادره الأصلية والمتعدّ بها، ولكي لا يقع في شبكة الأدب المزيّف، فيّعدّ أدبا ما ليس من الأدب في العير ولا في النفير.

 

سيد مسعود

 إشراقة/ ١٠ شعبان ١٤٤١

السيد مسعود

مدرّس في قسم معهد اللغة العربية بجامعة دار العلوم زاهدان- إيران
مجموع المواد : 50
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025