لأن الأسلوب هو أنت!

الأسلوب من أشدّ الملفات إثارةً للقلق بالنسبة للكتّاب المبتدئين ومن أكثر المسائل طرحا لديهم

"لا تتركْ كتبَ البلاغة العربية كالأغاني وكتبَ الجاحظ الخ، فأنتَ بحاجة إلى الأسلوب، إذ هو وحده الذي يُظهر الرجلَ، وهو وحده الذي تتمثّلُ فيه الشخصيةُ". (رسائل الرافعي|١١١)

الأسلوب في الكتابة مهمّ جدا بل هو أهم ما فيها، وأصل التفاوت بين الكتّاب، وما يُظهر الكاتبَ وتتمثّل فيه شخصيتُه، وهو بمثابة مُفترَق طرُق يفترق عنده الكتّاب، والفاصل الذي يفصل بينهم، وبقدر إجادة الكاتب فيه ينال إعجاب القرّاء.
قد كان الجاحظ مُعجبا بأسلوب الإمام الشافعي حيث قال في الحيوان:

"نظرتُ في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم فلم أرَ أحسنَ تأليفا من المُطَّلِبي، كأنّ لسانَه نثرَ الدُرَّ". (الحيوان ١/ ٨٩).

والمعجبون بأسلوب هذا الإمام الهُمام كثيرون، الذي له الباع الطويل في الفقه واليد العليا الباسطة في العربية، ويُعرف بإمام العربية، إذ نال الإمامة فيها كما نالها في مجال الفقه، وقد كان الأستاذ محمود شاكر يردّد كتاب "الأم" لأجل لغته وأسلوبه، كما يقول فيه الدكتور طه حسين:

"إنه من أروع ما يمكن أن يقرأ الإنسانُ من حيث الأسلوب". (اهتمامات عربية|١٦٠)

إن الأسلوب من أشدّ الملفات إثارةً للقلق بالنسبة للكتّاب المبتدئين ومن أكثر المسائل طرحا لديهم، فهم يبحثون جاهدين عن أسلوب كتابيّ، يتعرفون اليوم على كاتب ويبدؤون بمحاكاته، وبعد أيام قلائل يصادفون كاتبا آخر يُعجبهم أسلوبه، مما يتركهم تائهين حائرين، وقد يسألون: أي كاتب نُحاكيه في الأسلوب؟

لنعرف أنه رغم ما يحظى به الأسلوب من أهمية وخطورة إلا أنه لا ينبغي أن يثير قلق الكاتب المبتدئ ويجعله في حَيص بَيص، لأنه أمر يحصل تلقائيا مع الوقت عن طريق القراءة المكثّفة المتنوّعة. نشاهد للأسف بعض من يترك الكتابة جرّاء عدم الحصول على أسلوب كتابيّ! ولو قلتَ له: اكتبْ، فيقول: لا أمتلك أسلوبا! وهذا خطأ كبير جدا ومن أكبر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الكاتب، وإن مَثَل من يترك الكتابة وينتظر امتلاك أسلوب ليعود إلى ممارستها مرة أخرى مَثَلُ من يترك كرة القدم منتظرا إلى أن يُصبح لاعبا ماهرا فيعود إليها ! أو يترك سياقة السيارة ريثما يُصبح سائقا محترفا ثم يسوقها! أو يترك السباحة ليصبح سبّاحا ماهرا فيعود إلى الماء. فهل هو بالغ يوما ما ينتظره بغير ممارسة ؟! الجواب طبعا: لا، لأن المهارة تحتاج للممارسة، والممارسة هي التي تطوّر الأسلوب.

لا جُناح على المبتدئ أن يحاكي كاتبا ما، وهذا ما قد فعله ويفعله الكثير من الكتّاب في بداية مسيرتهم الكتابية. وكان الأستاذ عبّاس محمود العقاد يوصي الطلبة بقراءة كتب الأستاذ السيد المنفلوطي ومحاكاته في تعلم أسلوب الإنشاء. إلا أنه مما يجب أن ينحصر في المرحلة الابتدائية، ومن الخطأ النسج على هذا المنوال في المرحلة الاحترافية لأنه مما يؤدي إلى التكلف ويُفقِد الكاتبَ شخصيته الحقيقية.

 إنّ الكاتب لا يساعده شيء على امتلاك أسلوب كتابيّ جميل مُمتع فذّ، بمقدار ما تساعده القراءة المستمرة والمتنوّعة في كتب المُبدعين. وهذا ما صرّح به العلامة الرافعي فيما تقدم:

"ولا تتركْ كتبَ البلاغة العربيّة كالأغاني وكتبَ الجاحظ الخ، فأنت بحاجة إلى الأسلوب... ".

على الكاتب المبتدئ أن لا يسمح لوسوسة الأسلوب تقلقه كثيرا، وتفلّ همته، وتهز عزيمته، طالما يهتم بالقراءة الموسّعة والمتنوّعة في الكتب الأدبية البليغة، لأنه سوف يحصل على أسلوب يخصه، إذ لكل كاتب أسلوبه الذي يتميز به مع الوقت، فتظهر فيه شخصيتُه، ويصبح إحدى معالم حضوره في لغته. ألا، فلا يُقلقنّك أمرُ الأسلوب، لأن الأسلوب هو أنت.

سيد مسعود 
 إشراقة/ ٢٩ شعبان ١٤٤١

 

السيد مسعود

مدرّس في قسم معهد اللغة العربية بجامعة دار العلوم زاهدان- إيران
مجموع المواد : 50
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025