ما ذا استفاد الطلاب من الخروج في الدعوة والتبليغ
ولا ينكر أحد، ولا يشك شاك في أن الجامعات الدينية والمدارس الدينية التي تصب جهودها كلها في مصب واحد، وهو إشاعة الدين، وإحياء السنن، وإعداد رجال يقومون بترويج الثقافة الإسلامية، وبإحياء سنن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتي هي تاج رأس كل مؤمن ومؤمنة، غير أنها تواجه تحديات جديدة كل عام، بل كل شهر، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد ثبت تلك المدارس والجامعات الدينية تجاه تلك التحديات والفتن، حيث إنها صارت حصنا متينا وقويا لمواجهة أعداء الأمة، والتي تتواصل فكرتها في تدمير الإسلام والمسلمين في كل مكان، وفي كل آن، إلا أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد حمى الإسلام والمسلمين بفضله وكرمه...
ومعظم المدارس والمعاهد الإسلامية الدينية يفرض على طلابها في الدراسة منهجا واحدا، وذلك لأنها قاطبة ملتحقة بهيئة وفاق المدارس العربية ملتان، باكستان، إضافة إلى أن تعليمات وتوجهات تختلف، فكل مدرسة وجامعة دينية لها تعليمات خاصة تفرض على دارسيها، وكلها في سبيل تربية الطلاب، وتثقيفهم بثقافة إسلامية، فالمدرسة أنا وزملائي فيها، لها تعليمات وتوجيهات وإرشادات خاصة، والتي تفيد دارسيها من جميع النواحي، وكل طالب ملزم بها، حيث إنه لما يأتي في بداية السنة للالتحاق يقدم إليه استمارة خاصة، فالطالب يملأ تلك الاستمارة بعد ما يقرأ شروط وتعليمات والتي هي مكتوبة على نفس الاستمارة على صفحة أخرى، ثم يوقع أدناه على أنه موافق على جميع الشروط والتعليمات...
فمن تعليمات هذه المدرسة يلزم الطالب الخروج في الدعوة والتبليغ لثلاثة أيام تقريبا في كل شهر، والذي يتخلف من الطلاب يعاقب عقابا خاصا، وهذه المرة خروج الطلاب كان في شهر محرم الحرام، فالحمد لله الإخوة كلهم خرجوا في الدعوة والتبليغ، وبعد مضي ثلاثة أيام كان عودتهم اليوم إلى المدرسة، فلما عادوا وشاركوا في الدروس...
وفي الدوام المسائي أولا سمعت أحداث الرحلة الدعوية من كل طالب، حيث إن البعض منهم لم يكونوا مستعدين، لكني أجبرتهم على إسماع الأحداث، فلما رأوا أنه لا سبيل سوى الإسماع، فأسمعوني جميعا... فسألت بعض الإخوة عن خروجهم: هل خرجوا من قبل أم لا؟ فالإجابة قد حيرتني حيث إن البعض منهم قالوا: عفوا يا أستاذ، لم يسبق لنا الخروج في الدعوة والتبليغ من قبل، ومنذ أن جئنا إلى هذه المدرسة بدأنا نخرج في الدعوة والتبليغ، وها نحن اليوم عدنا من الرحلة الثانية...
فطرحت عليهم سؤالا: وهو أنكم ما استفدتم من الخروج في الدعوة والتبليغ لمدة ثلاثة أيام؟ وقد ألزمتهم جميعا بأن كل واحد منكم يعتمد على أفكاره، ومنحتهم فرصة حتى يستجمعوا أفكارهم حوله، ولقد أذنت لهم بتقييد فوائد الرحلة الدعية في شكل النقاط بالقلم، فبدأ كل واحد منهم يقيد ما استفاد منها بقلمه، وفي كراسته الخاصة به... وبما أن هذا السؤال كان فكريا فظل الجميع يتفكرون في إجابته، وكنت على علم أن الإجابات التي أتلقيها اليوم من قبلهم لم تكن واحدة، بل تكون مختلفة ومتنوعة، وذلك لأن كل واحد من الإخوة يعتمد على فكرته الخاصة، ففكرة كل واحد تختلف عن فكرة الآخر، وأنا أيضا مسكت قلما وورقة بيضاء حتى أسجل أهم نقاط موضوع اليوم...
بعد مضي عشر دقائق قام أحد الطلاب قائلا: عفوا يا أستاذ، لقد كتبت إجابة سؤالك، فقلت له: تفضل يا بني، فبدأ بالإجابة قائلا: إنني استفدت من الخروج في الدعوة والتبليغ لمدة ثلاثة أيام استفادة كاملة، حيث إنني وجدت ثلاثة أيام للاستراحة، ووجدت فيها وقتا لمراجعة ما درست من الدروس، فتمكن من إتقان دروسي الماضية، والأمر الذي يجب علي ذكره هو أن الذي يخرج في الدعوة والتبليغ فهو يتعرف على أحوال سكان المنطقة، ثم لا بد من القيام بدعوة الناس إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ والقائم به يزداد إيمانه، ثم إنه مجال تدريب الخارجين في سبيل الله، حيث إن كل واحد من الخارجين يتدرب على الإلقاء في دوره، والذي لا يمكنني حصوله وأنا في المدرسة، لكثافة الدراسة...
فأشرت إليه بالجلوس قائلا: تفضل أخي بالجلوس، وقلت للثاني: فقام وبدأ يعد على أصابعه ما استفاد من خروجه في الدعوة والتبليغ قائلا: إني تعلمت عدة أمور في الخروج، والتي لم أتعلمها من قبل، (فنظر الجميع إليه محدقين النظر) فرفع سبابته رافعة: أولا: تعلمت في هذا الخروج الإعلان باللغة العربية، والذي ينقصني منذ مدة، وثانيا: بما أن الخدمة تكون حسب النوبة، فقمت بالخدمة في دوري في كل حماسة، وكنت سعيدا حينئذ، والأمر الثالث هو إنني تعلمت كيف يمكنني أداء المسئولية، والأمر الرابع والذي يهمني أكثر من جميع الأمور، هو أنني علمت طريقة إعداد المرق والطعام، فكنت أقوم بإعداده في نوبتي، والأمر الخامس أن الخارج في سبيل الله يتعرف على زقاق الأحياء، وذلك لأنه عادة يكثر الجوالات الخصوصية تحت إشراف دليل من سكان الحي، والأمر السادس هو أنني علمت كيفية المعاملة مع الناس، والأمر الأخير الذي هو أكثر أهمية من الجميع هو إطاعة الأمير، فإني عرفت في الخروج كل نفر من الجماعة كان يهتم بإطاعة الأمير، ولم أرى مثل هذه الإطاعة في مكان آخر، ومع ذلك إنها مطلوبة في كل أمر من الأمور...
وبما أن عدد الطلاب كان أكثر من واحد فلذا أوقفت ذلك الطالب، حتى أعطي فرصة لطالب جديد كي يتكلم، فأشرت إلى الطالب الجديد قائلا: ما استفدت من الخروج في الدعوة والتبليغ لمدة ثلاثة أيام؟! فقام وعدل ثيابه وقلنسوته، وشرع في إجابته قائلا: إنني يا أستاذي المكرم، تعلمت خلال الخروج عدة أمور: أولا: إنني كنت متفكرا في الذين لم يؤدوا الصلوات مع الجماعة في المساجد، فغلبت تلك الفكرة علي، فكنت طوال الوقت بأني كيف يمكنني إخراج أولئك الجالسين في بيوتهم للصلوات في المساجد، والأمر الثاني هو أن الخارج في سبيل الله أثناء خروجه يتعلم الصبر، فإنه يواجه العديد من الأشخاص مختلفة الأمزجة، فحينئذ يجب على الخارج الصبر والتحمل. والأمر الثالث هو أن الخارج في سبيل الله يتعلم خلال خروجه المواظبة على الأوقات، حيث إنه يقوم بأمور الدعوة بالمواظبة على الوقت المحدد، ثم يمكنه أن يواظب على أموره الشخصية بعد عودته من الخروج...
خلال حديث ذلك الطالب فجأة قام طالب جديد، وقال: عفوا يا أستاذي، أنا لدي عمل، فأحببت أن أعرض عليكم ما هو متعلق بما نحن فيه من الموضوع، فأجلست الطالب الناطق، وقلت للذي هو مستعجل: تفضل أخي الكريم، فبدأ كلامه بقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...﴾[1] ثم قال: إنني علمت خلال خروجي في الدعوة والتبليغ بأن الامتثال بهذه الآية لا يمكن إلا بالخروج، ثم الامتثال بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً"[2] لا يمكن إلا بالخروج في الدعوة والتبليغ، ثم المشي على سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضا يفتقر إلى جو صالح والذي يساعد من أراد المشي على سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا لا يمكن إلا بالخروج، والمشاهدة على أن الأمة على أية حالة من الأحوال، ثم الخروج في الدعوة والتبليغ يعلم الخارجين في سبيل الله بأن الأمم السابقة ما ذا فعلت بأنبيائهم، وكذلك الخارج في سبيل الله يتعلم كيفية طريقة الدعوة، وهذا ما استفدناه من الخروج في الدعوة والتبليغ لمدة ثلاثة أيام...
[1] آل عمران، الآية: 110.
[2] مسند الإمام أحمد بن حنبل: 11/25.