النقل يحتاج إلى العقل
لو يكتب ما يحدث في حياة المعلم لامتلأت الدواوين والدفاتر منه، وعمت الفائدة، ولكن للأسف الشديد لم يسجل ذاك الذي ينبغي تسجيله، فإن الإنسان عرضة للنسيان، فإن لم يكتب ما يريد محفوظه، فينمحي من ذاكرته بعد مضي دقائق، ثم لا يتذكره إلا نادرا، فينبغي لكل واحد أن يسجل ما يحدث في حياته من تجارب، حتى يستفيد منه العامة والخاصة، ثم هذه الكتابة تذكر كاتبها على ألسنة الناس بعد رحيله من هذه الدنيا الفانية، وتخلد ذكراه على ألسنة القراء، ولربما يحتاج إليها الكاتب بنفسه في حياته مرة أخرى، فأين يبحث عنه في ذاكرته، فإن كتب ما يحدث في حياته من تجارب، لما واجه أية صعوبة في الوصول إلى ما يريده...
فمنذ أن بدأت كتابة الموضوع كل يوم، فأحاول أن آتي بموضوع لم يسبق إليه كتابة من قبل، ثم ليس الضروري أن يكون ذلك الموضوع موضوعا تحقيقيا، بل يكون موضوعا فكريا، وقد يكون ذلك الموضوع حول تجربة من التجارب، فاليوم لما جلست مع الطلاب بعد العشاء لإصلاح الكراسات، ولسماع ما كتبوها من الواجبات اليومية، اكتشفت شيئا جديدا كنت أسمع عنه من قبل، لكني لم أره عمليا من قبل، فها هو اليوم الذي شاهدته عمليا، فأحببت تدوينه بكلماتي البسيطة حتى يستفيد منها القاري، وأنا أيضا أستفيد منها عند الحاجة إليه...
ولقد سمعت غير مرات أن النقل يحتاج إلى العقل والفهم، ولكني لم يسبق لي أن أجرب ما قيل، ولم أجد هذا الكلام مطبقا عمليا، فاليوم لما جاءني طالب بكراسته، وكتب فيها بحثه المسود، وأراد أن يقرأه علي مقدمة ذلك الكتاب، فاستمهلت منه عشر دقائق، ثم طلبته ليقرأها علي، فبدأ قراءتها، فكنت متوجها إلى ما ينطقها من العبارات، حتى عند ما كنت أرى أنه أخطأ في كلمة أو عبارة، فكنت أقوم بإصلاحها، وألزمت ذلك الطالب بمسك قلم أحمر، حتى يضع الخط الأحمر فوق كلمة خاطئة، وعبارة خاطئة، حتى بعد ما يرجع إلى مكانه يراجع تلك الأخطاء، ويصلحها...
ومقدمة البحث عادة تشمل على عدة أمور، فمنها: منهج البحث، أي الكاتب يكتب فيه منهجه الذي اختاره في كتابة ذلك البحث، فلما وصل ذلك الطالب إلى منهج البحث، وقرأ علي ما اختار منهجه في الكتابة، وفي ذكر المصادر والمراجع، فهنالك استخدم كلمة أدهشتني في البداية، وأنهضتني مما كنت فيه، فالتفت إليه متسائلا: ما ذا قرأت؟ اقرأها من جديد؟
فقرأها من جديد قائلا: "التفيت هنا بذكر اسم الكتاب، واسم المؤلف" فأوقفته عند نطقه هذه العبارة، وسألته ما معنى هذه العبارة، فأفهمني بكلماته، ولكنه لم يوضح كلمة " التفيت..." فعلمت أنه قد نقل هذه الكلمة من كراسة أحد الطلاب، ولم يتفكر حين نقلها بأنه ينقلها صحيحا أم أنه ينقلها خطأ، فقلت له: نقلت هذه الكلمة، ولم تتفكر فيها بأنها صحيحة أم خاطئة؟
ثم قلت في نفسي: بأنني كنت أسمع منذ مدة طويلة عبارة "النقل يحتاج إلى العقل" وها اليوم قد شاهدتها عمليا، فالدرس الذي نلته اليوم هو أن الإنسان ينبغي أن يكون منتبها بكامل الانتباه حين ينقل كلام غيره، حتى لا يقع في خطأ مثل ما يقع ذلك الطالب....