في سبيل التذوق القرآني (٢) جماليات التخييل النفسي

إن أول خصائص التصوير الفني هو إخراج اللفظ من دائرة المعنى المجرد إلى الصورة المحسوسة والمتخيلة، وهو ما يسميه سيد قطب "التخييل النفسي" فالصورة القرآنية تعمل عملها في الخيال، وتثير فيه أحاسيس ومشاعر متنوعة، فكلما قوي الخيال كانت الصورة أوضح وأشرق، ويضيف قائلا:

"والقرآن يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن مختلف الأغراض فيه، فالتخيل الحسي هو أول قاعدة تقوم عليها الصورة، إنها تدع الخيال يعمل فيها وفي جزئياتها، ويتخيلها في مختلف الأشكال كما تدع الحس يتأملها ويتأثر بها".

فإذا أراد الله أن يبين أن أعمال الكفار ستضيع كأن لم تكن قبل شيئا، وستذهب إلى غير عودة، فلايملكون لها ردا، فيقدم هذا المعنى مصورا قوله: ﴿وَقَدِمۡنَاۤ إِلَىٰ مَا عَمِلُوا۟ مِنۡ عَمَلࣲ فَجَعَلۡنَـٰهُ هَبَاۤءࣰ مَّنثُورًا﴾ [الفرقان ٢٣] أفرأيت كيف يعطيك أولا صورة الهباء المنثور، ثم تترك خيالك وإياها حتى تعطيك معنى أوضح وآكد، للضياع الحاسم المؤكد.

وكذلك إذا أراد أن يبين أن الذي يشرك بالله، لا منبت له ولا جذور، ولا بقاء ولا استمرار، فيمثل لهذا المعنى بصورة سريع الخطوات عنيفة الحركات، حيث يقول: ﴿وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّیۡرُ أَوۡ تَهۡوِی بِهِ ٱلرِّیحُ فِی مَكَانࣲ سَحِیقࣲ﴾ [الحج ٣١]...يعني هكذا في ومضة.. يخر من السماء من حيث لا يدري أحد، فيقع على الأرض فإما أن تخطفه الطير فلا يرى له أثر ولا رسم، أو تذروه الرياح إلى الأماكن البعيدة.. فيصير  كأن لم يغن هناك بالأمس.[ التصوير الفني في القرآن، بتصرف يسير]

هذه إضاءة على درب التذوق القرآني، يمكنك بعده إبان تلاوتك أن تسرح عنان فكرك إلى هذا الجانب، وتمعن النظر في هذا النوع من التصوير السائد في كثير من تراكيب القرآن نظير الأمثلة المذكورة - أعلاها-، حتى تبدأ تحس لذة القرآن البيانية، ولكن قد تكون هناك عوائق وحواجز تحول دونك ودون التلذذ بالقرآن والتذوق به، وهي كما قال العلامة ابن قدامة رحمه الله:

"من موانع فهم القرآن والتلذذ به:أن يكون التالي مصرّاً على ذنب، أو متصفاً بكِبر، أو مبتلى بهوى مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تترآءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل الجلاء للمرآة".[مختصر منهاج القاصدين]

ليكون القرآن ربيع قلبك ونور بصرك، وجلاء أحزانك وذهاب همومك وغمومك لا بد أن تزيل العوائق عن هذا الطريق، ولا بد من أن تخلو بالقرآن كل يوم للتدبر فيه ولو لخمس دقائق، حتى تكون من المستقين من ينابيعه الرقراقة، والفائزين من أجله بشرافة الدنيا وكرامة الآخرة...والله الموفق والمعين. 

 يوسف عبدالرحمن الخليلي 
خواطر قرآنية/٤ رمضان ١٤٤١ ھ


يوسف عبد الرحمن الخليلي


مجموع المواد : 44
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024