في سبيل التذوق القرآني (٦) : التشخيص في الصور القرآنية
إن التخييل الحسي في الصور القرآنية -والتي قد سبق منا ذكره في الحلقة الماضية - له ألوان عدة، ومن أهمها وأبرزها هو "تخييل بالتشخيص"...فإليكم في هذه الحلقة تعريف التشخيص وبيان بعض مزاياه إلى جانب أمثلة تطبيقية.
فالتشخيص كما عرفه سيد قطب هو خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية، ليشمل هذه الأشياء فتهب لها صورا شاخصة، وعواطف آدمية، وخلجات إنسانية...وتصور ظواهر هذه الطبيعة على هذا الشكل الحي يثير في نفس القاري من معاني الجمال والانشراح، إذ إنه يأنس بمن حوله، ويراهم شخوصا تدب وتتحرك وتسير وتتنفس، وهو لا يحس هذا الإحساس لولا طريقة القرآن الفريدة في التعبير.
ومن أمثلة ذلك آيات في تشخيص جهنم...منها قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}...فهي تخاطب وتجيب، وهي نهمة لا تشبع، وقوله تعالى: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظ}ِ.. فهي تصخب وتغيظ...وقوله تعالى:{إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}... فهي حية لها عين تنظر بها، فإذا رأت الكفار من مكان بعيد بدأت تتغيظ وتزفر... وقوله عزوجل: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى* نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى* تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى}... فهي حية تنزع الجلود، وهي ذات نفس تدعو القادمين إليها من الكفار ليسرعوا في القدوم.
ومن تشخيص الظل في الآيات القرآنية - وهو يسجد لله - قوله عزوجل: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}... وقوله جل شأنه:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}. فهذا تصوير الظل وهو حي يمتد ويتراجع، ويثب ويتمايل عن اليمين والشمال...وقوله تقدست أسماؤه: {أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا}.. فهذا الظل وهو حي شاخص خاشع لله سبحانه وتعالى في تمدده وانحساره...وقوله جل وعلا: ..{وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ* لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}...فهذا تشخيص الظل وهو حي ذو نفس، ولكن في نفسه كزازة وضيق، فهو لا يحسن استقبال أهل النار، ولا يهش لهم هشاشة الكريم !
سبحانه ما أروعه من بيان! وما أعجزه من كلام ووصف وتشخيص! فهل من خائض في بحر روائعه وجمالياته، ليخرج منه بالدرر والجواهر المكنونة، وهل من متذوق لحلاوته وجلاله وجماله؟..نسأل الله تعالى التوفيق والسداد لكل ما فيه صلاح ورشاد، وتوطيد لصلتنا بكتاب نزل بلغة الضاد.
يوسف عبدالرحمن الخليلي
خواطر قرآنية/ ٩ رمضان ١٤٤١ ھ