في سبيل التذوق القرآني (١٠) : التصوير الفني للحالات النفسية
إن طريقة التصوير الفني في القرآن الكريم تتميز من بين طرق التعبير المختلفة بكونها سببا في سحر المؤمنين، واستحوذ بها القرآن على مشاعرهم، وسيطر على قلوبهم، وأثر في وجدانهم، وتم له سلطانه العجيب عليهم، وسرى سرّه إلى أشخاصهم، فدبت فيها الحياة، وصاغوا حياتهم من جديد وفق مبادئه وتعاليمه، وأحدث بهم أغرب انقلاب في تاريخ البشرية، وقد كان للطريقة التصويرية التي عرض القرآن بها مبادئه وتعاليمه الأثر المباشر في كل هذا.
فمن آفاق طريقة التصوير الفني في القرآن تصويره للحالات النفسية، وإن للحالات النفسية المصورة فضلا على الحالات النفسية المجردة، وتتبين قيمة هذا التصوير فيها إذا تصورنا الحالات النفسية على صورتها الذهنية التجريدية أولا، ثم تصورناها على صورتها التصويرية التخييلية.
ومن أمثلتها قول الله عزوجل في تصوير الحالة النفسية للمؤمنين أثناء الهزيمة يوم أحد: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [آل عمران:153] .
لقد رسم القرآن الكريم في الآية المذكورة هذا المشهد الحي المتحرك في تصوير حركة المؤمنين أثناء الهزيمة، الحركة الحسية، التي تدل على الحالة النفسية. فهم مصعدون في الجبل هربا، ونفوسهم تكاد تفر من الاضطراب والرعب والدهشة، ولشدة اضطرابهم النفسي الذي ولد هذا الهروب، لا يلتفت إليه أحد، ولا يجيب أحد منهم داعي أحد! والرسول صلى الله عليه وسلم - حبيبهم الذي كانوا يفدونه بنفوسهم - يدعوهم في أخراهم! في أسفل الجبل! يدعوهم إلى العودة، ولكنهم لشدة اضطرابهم ورعبهم وخوفهم لا يسمعون نداءه، وإذا سمعوا النداء فلا تقوى نفوسهم المضطربة على إجابة الداعي الرسول الحبيب - صلى الله عليه وسلم -! وبعدما سكنت قلوبهم واطمأنت نفوسهم امتلأت غما على ما كان منهم.
فهذا مشهد فني متحرك في قمة الروعة وأوج الجمال، حيث يرسم هذه الحالة النفسية الحرجة الطارئة التي غشيت نفوس المؤمنين في ذلك الحين، ولو جردنا هذه المعاني عن الصورة الفنية لوجدناها لا تحمل عذوبة في طياتها، ولا تجلب النفوس إليها، ولا تهز المشاعر، ولا تحرك العواطف، فالفضل في جمال المشهد لهذا الأسلوب القرآني الأخاذ.
يوسف عبدالرحمن الخليلي
٢١ رمضان ١٤٤١ ھ