في سبيل التذوق القرآني (٥) : التخييل الحسي في الصور القرآنية
التخييل الحسي هو القاعدة الأولى التي يقوم عليها التصوير الفني في القرآن الكريم، وهو من أبرز خصائصه وسماته،فالتخيل لا شك أنه يفعل الأعاجيب، كما أنه يزيد القوى الجسدية إلى جانب القوى الروحية.
ربما تسألني ما هو التخييل الحسي يا ترى؟ فإليك ماذكره الدكتور صلاح الخالدي تلخيصا لما ذكره سيد قطب رائد التصوير الفني في القرآن حيث قال:
إن الفنان المتخيل هو الذي يكتشف التصوير الفني، وأن الخيال هو ميدان ظهور هذه الصور الفنية، وهي تعمل عملها فيه، وتدخل إليه عن طريق الحس والوجدان، وتثير في النفس شتى الانفعالات والأحاسيس، وكلما كان الخيال نشيطا خصبا كان اكتشافه للصور الفنية أدق وأوضح.(نظرية التصوير الفني في القرآن بتصرف)
فالتخييل الحسي هو تلك الحركة التي يضفيها التصوير القرآني على اللوحة الصامتة فيبث فيها الحياة، ويحولها إلى منظر متحرك، فهو لا يكاد يعبر بالصورة المحسة والمتخيلة- عن المعنى الذهني أو الحالة النفسية- حتى يرتقي بالصورة التي رسمها فيمنحها الحياة النابضة، والحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني حركة يرتفع بها نبض الحياة، وإذا الحالة النفسية لوحة متحركة أو مشهد حي بين يدي القارئ.
ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]. فانظر كيف استحالت الأرض الجامدة كائنا حيا بلمسة واحدة، في لفظة واحدة (اهتزت).. وكأنها ذاك الكائن الحي الذي أخمد الظمأ أنفاسه، حتى إذا مس الماء أحشاءه عادت إليه الحياة وانبعث فيه النشاط.
وكذلك قول الله عزوجل في بداية سورة مريم نقلا عن سيدنا زكريا عليه السلام:{وَ اشْتَعَلَ الرَّاْسُ شَیْبًا}[مريم:3]...فإن هذه الصورة تثير في الخيال حركة تخييلية سريعة، وهي حركة الاشتعال التي تتناول الرأس في لحظة، وهي حركة جميلة، تلمس الحس وتثير الخيال؛ فإن في التعبير بالاشتعال عن الشيب جمال، كما أن في إسناد الاشتعال إلى الرأس جمال آخر، يكمل أحدهما الآخر.
وهذا النوع من التخييل هو السائد في معظم صور القرآن، ولن يطلع على جماله إلا من خاض بنفسه في بحر التدبر والتذوق القرآني، وما يُلقّاه إلا ذوحظّ عظيم، جعلني الله وإياكم منهم.
يوسف عبدالرحمن الخليلي
خواطر قرآنية/٨ رمضان ١٤٤١ ھ