في سبيل التذوق القرآني (٣) : بين الأدب القرآني والأدب العربي
لا يشكُّ عاقل لحظة واحدة ألَّا مجال للموازنة والمقارنة بين الأدب القرآني، وفنون الأدب العربي ونقده، فشتَّان بين كلام الله -عز وجل- الأزلي، وبين كلام خلقه الذي أبدعهم وخلقهم، فمهما بلغت اللغة العربية قمَّة البلاغة على يد أربابها صقلًا وتهذيبًا وحضارة، فقد عجزوا عن مجاراة القرآن الكريم ومعارضته بعد أن تحدَّاهم أجمعين.
وذلك؛ لأن طبيعة وخصائص الأدب العربي ونقده؛ أنه خاضع للتغيير والتجديد والتحديث،من أجل أنه نتاج البشر المخلوق، الذي لا يثبت على حال، بل يزدهر ويتقلَّب بين سائر الأحوال والثقافات، بينما الأدب القرآني المقدس يتسم بصفات وسمات أخرى من أبرزها "الجلال"، من أجل مصدره الذي هو الرب ذو الجلال والإكرام، وذلك إلى جانب صفتي "الحلاوة والجمال" الذين يتصف بهما الأدب العربي، وعلى هذا فليس القرآن شعرًا، ولا سجعًا، ولا نثرًا فنيًّا، ولا غير ذلك من كلام البشر، وليس نصًّا أدبيًّا، كما يطلق عليه بعض النقاد في دراساتهم، وما دام كذلك فلا يصح مطلقًا أن يخضع لمصطلحات النقد الأدبي، التي نقيس بها جودة الأدب العربي والإسلامي ورداءته، لنحكم على آداب البشر بالجودة والرداءة، لأن الأدب القرآني بلغ في سموه إلى حد الإعجاز، مما تتعطل معه مقاييس البشر ومصطلحاته النقدية في ميزان الأدب؛ ليقفوا على عناصر الجمال وأسبابه ومسبباته، ويتذوقوا مواطن الحلاوة، ويشعروا بها، لأن الجلال -لا الجمال ولا الحلاوة- في الأدب القرآني لا يحتاج إلى مقاييس الناقد الأدبي ومصطلحاته للوقوف على الإعجاز في التصوير القرآني.
ولما كانت هذه القضية مختلفة تمامًا؛ فإنه يلزم بالضرورة وبلا جدال ولا مناقشة أن نتعامل مع كتاب الله -عز وجل، وقرآنه العزيز المحكم بما يتفق مع قداسته وربانيته، لأنه عزَّ على البشر والجن أن يأتوا بمثله، مبهورين بإعجازه وبلاغته، بل عجزوا عن أن يأتوا بآية واحدة مثله، قال تعالى: ﴿قُل لَّىِٕنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِمِثۡلِ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا یَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضࣲ ظَهِیرࣰا﴾ [الإسراء ٨٨]
فمن هنا ينبغي لنا إذا أعجبنا بآية قرآنية وأردنا التعبير عن روعتها فلا يصح أن نكتفي بما نتعامل به مع النص الأدبي للبشر، فنحكم عليه بالجمال فقط لوضوح أسبابه وعناصره الجمالية المألوفة، ولا بالحلاوة فقط، التي جمعت بين أسباب الجمال وانبهار الذوق الأدبي، بل يجب أن يكون التعامل مع القرآن الكريم بأسمى من كل ذلك، وهو أن نصفه بالجلال الذي هو من أسمى خصائص التصوير القرآني وسماته، والتي تتلائم مع الإعجاز في القرآن الكريم، الذي تقاصر دونه أرباب البلاغة والفصاحة، حين وصلوا باللغة العربية وأدبها إلى القمة في البلاغة، حتى سمت وشرفت بين اللغات الأخرى بالقرآن الكريم، كما قال حافظ إبراهيم:
وسعتُ كتاب الله لفظًا وغاية
وما ضقتُ عن آي به وعظات
وللأكثر في هذا الموضوع ينبغي الرجوع إلى كتاب "التصوير القرآني للقيم الخلقية والتشريعية" للشيخ علي علي الصبح، فله حديثه المسهب في هذا الباب.
يوسف عبدالرحمن الخليلي
خواطر قرآنية/٥ رمضان ١٤٤١ھ