في سبيل التذوق القرآني (٧) : التجسيم التمثيلي في الصور القرآنية
التجسيم الفني هو السمة الثانية من سمات التصوير الفني في القرآن الكريم، ويعود الفضل في اكتشافه كذلك إلى سيد قطب رحمه الله، فقد بين ما يقصده من إطلاق هذا المصطلح قائلا:
"هو تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساما أو محسوسات على العموم"...(التصوير الفني في القرآن، سيد قطب)
ولقد ورد هذا التجسيم في القرآن بطريقين: تجسيم تمثيلي، وتجسيم تحويلي، نكتفي بذكر الأول منهما في هذه الحلقة، وهو التجسيم التمثيلي التشبيهي، ويراد به تشبيه الأمر المعنوي المجرد بأمر محسوس مجسم، على وجه التشبيه والتمثيل، وهو كثير الوقوع في الآيات التصويرية في القرآن الكريم.
فلنضرب على ذلك مثلا قوله سبحانه وتعالى: {مّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ،لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}…تأمل معي هذه الآية؛ فإن أعمال الكفار هنا - وهي أمور معنوية - قد قدمتها الآية مصوّرةً مُحسّةً ومجسّمةً، حيث تحولت إلى كومة رماد اشتدت به الرياح، فسرعان ما تتبدد وتتلاشى في الفضاء۔
وكذا قول الله عزوجل : {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوت،ِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}...فقد جُعلت الولاية لغير الله - وهو أمر معنوي مجرد - صورةً محقّرة منفّرة محسوسة مجسّمة، بيت عنكبوت ضئيل هزيل واهن.
والمثال الثالث قول الله جل جلاله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}...فلو أمعنت النظر في صميم الآية لوجدتها وهي تصور اليهود - لعدم انتفاعهم بما في التوراة - قطيعا من الحمير تسير، وهي تحمل على ظهورها كتب العلم، وهي لا تنتفع بها، ولا تدري ما بداخلها، فذلك تجسيم لعدم انتفاع اليهود بالتوراة- وهو أمر معنوي - عن طريق تشبيهه بعدم انتفاع الحمار بما حُمّل عليه من أوزار الكتب العلمية.
فهذه صور رائعة للتجسيم الفني في القرآن، وكأنه مفتاح لفهم واستيعاب وتذوق معاني كلام الله عزوجل، فعلينا أن نأخذه بعين الاعتبار حين قراءتنا لكتاب الله، عسى أن يمهّد لنا هذا التمعن والتدبر طريقا نحو أفاق جديدة لمعاني هذا الكتاب المعجز البديع، وبالله التوفيق.
يوسف عبدالرحمن الخليلي
خواطر قرآنية/١١ رمضان ١٤٤١ ھ