في سبيل التذوق القرآني (١) : الصورة الفنية في أسمى معانيها
كتاب في قمة الإبداع الفني، وفي أوج الجمال الأدبي، كثيرا ما تقرأه وتتلوه، ولكن ربما ذهلت عن جانب هام من جماله، أو مررت به مروا سريعا دون أن تقف عند كلماته وقفة تأمل وتدبر وتذوق، هو الكتاب الذي انبهر بجماله فصحاء عدنان، وبلغاء قحطان، هذا سيدنا عمر رضي الله عنه حينما سمع بعض الآيات من سورة طه سحر بجمالها وروعتها، وانبهر بصورتها الفنية إلى جانب التناسق المتكامل فاعتنق الإسلام، فيما سمع الوليد بن المغيرة عدة آي من سورة المدثر، واستحوذ أسلوب القرآن عليه، واضطرب له ولكنه لم يؤمن، ولم يكن انبهارهم هذا بمثل هذه السور التي لم يكن فيها تشريع ولا غيب ولا علوم إلا لذلك الجمال الفني الأصيل، وروعة أسلوبه.
إن التصوير في رأي سيد قطب هو الأداة المفضلة في القرآن الكريم، فهو يحوّل المعنى إلى صورة فإذا هي تصبح واقعًا أمامك، والأمثلة لذلك كثيرة مستفيضة في كثير من الآيات فيما عدا التشريع.
فعلى سبيل المثال، حينما يريد القرآن أن يعبر عن "معنى أن الكافرين لن ينالوا قبولاً من الله" فإنه لا يقولها مباشرة، وإنما يحولها إلى صورة: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَ ٰبُ ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ یَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِی سَمِّ ٱلۡخِیَاطِۚ﴾ [الأعراف ٤٠]، والجمل هو الحبل الغليظ، فيدع للذهن البشري أن يتخيل صورة حبل غليظ لا يدخل في فتحة الإبرة الدقيقة مهما حاولت، وبذلك يتأكد المعنى المطلوب حينما تحول من معنى ذهني إلى صورة فنية.
وكذلك حينما يريد أن يعبر عن ضياع أجر الكافرين فإنه لا يعبر عنها بطريقة تقريرية وإنما برسم صورة فنية ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَـٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّیحُ فِی یَوۡمٍ عَاصِفࣲۖ﴾ [إبراهيم ١٨] فيدع للذهن أن يتخيل حركة الريح تذرو الرماد، فيتبدد بددًا..
وكذا إذا أراد أن يقول إن الصدقة التي تبذل رياء لا تثمر عند الله، فيصورها هكذا ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَـٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّیحُ فِی یَوۡمٍ عَاصِفࣲۖ لَّا یَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا۟ عَلَىٰ شَیۡءࣲۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَـٰلُ ٱلۡبَعِیدُ﴾ [إبراهيم ١٨] فيرسم لنا الخيال صورة حجر صلب غطته طبقة رقيقة من التراب، فظنت فيه الخصوبة، فإذا بوابل من المطر يتركه صلدًا بدلاً من أن يهيئه للخصوبة والنماء.
فهذا غيض من فيض الصورة الفنية التي يشتمل عليها القرآن الكريم، ومن أبرز أولئك الذين لعبوا دورا رئيسيا في إبراز هذه الخصيصة القرآنية العظيمة الأديب البارع والمفكر الإسلامي العظيم سيد قطب، حيث قتل هذا الموضوع بحثا، وأخرجه بعنوان " التصوير الفني في القرآن الكريم "، فهذا الكتاب القيم جدير كل الجدارة أن يعني به كل من أراد أن يتذوق جمال أسلوب القرآن الكريم، حتى يعرف أن القرآن الكريم كتاب في قمة الجمال الأدبي، فيعشقه ويشتاق إليه قبل أن يهوي إلى أي كتاب أدبي آخر، فإنه الكتاب الذي لا يمكن له مثيل ولا نظير على مر العصور وكر الدهور.
يوسف عبدالرحمن الخليلي
خواطر قرآنية/٣شعبان ١٤٤١ ھ