في سبيل التذوق القرآني (١٣) : التصوير الفني في مشاهد الطبيعة
من ميزات طريقة التصوير الفني في القرآن هو استحياء المشاهد والمناظر واستحضارها، وذلك بالانتقال المفاجئ من الحكاية إلى الخطاب، أو من الغيبة إلى الحضور، بلفظ يصور المشهد، أو بحذف لفظ من السياق، وهذا الاستحياء إنما يتم بفضل الطريقة التصويرية المبدعة، ولا غرو؛ فإن أية طريقة تجريدية - مهما بدت بليغة - لن تصل إلى مشارف هذا المستوى من الاستحياء المعجز البليغ.
كما نلاحظ هذه الطريقة التصويرية الفنية البديعة في مشاهد الطبيعة التي وصفها القرآن الكريم في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}( الرعد:4)
في هذه المشاهد تصوير حي معجز، ترسمه الريشة القرآنية على شكل لمسات تصويرية، لمسة في السموات، حيث رفعت بغير عمد، لتبين العلو المنظور للناس، وتجاورها لمسة تصويرية أخرى في العلو المطلق ( ثم استوى على العرش) ثم لمسة مصورة ثالثة في تسخير العلو المنظور إلى الناس حيث سخر الشمس والقمر، ثم تهبط الريشة القرآنية لتخط وجه الأرض خطوطا تصويرية عريضة في لوحة مصورة، فاللمسة الأولى فيها هي الأرض ممدودة مبسوطة فسيحة، ثم خط الجبال الرواسي، وخط الأنهار الجارية في هذه اللوحة، ثم ترسم خطوطا كلية لما في هذه الأرض( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) ثم المشهد المتحرك لليل، وهو يغشي النهار، ثم تخط هذه الريشة القرآنية المعجزة وجه الأرض خطوطا جزئية أدق، اللمسة الأولى فيها:( وفي الأرض قطع متجوارات) متعددة الثبات، ثم تأتي التفصيلات بعد هذه اللمسة (وجنت من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) هذه التفصيلات الجزئية وهذه المغروسات، تسقى كلها بماء واحد، ولكن الله يفضل بعضها على بعض في الأكل، وكل مخلوق يذوق الطعوم المختلفة في ثبت البقعة الواحدة.
بهذه الطريقة التصويرية في التعبير تكتسب مشاهد الطبيعة في القرآن جدة باستمرار، وتأثيرا في النفوس على الدوام. ( في ظلال القرآن | ٢٣٧٤/٤)
وعلى هذا القياس ينظر في جمال وروعة التصوير الفني في مشاهد الطبيعة التي وردت بكثرة في القرآن الكريم، فطوبى لمن قرأها وذاقها، ثم عرف معانيها فاغترف منها.
يوسف عبدالرحمن الخليلي
٢٦ رمضان ١٤٤١