إلى التزكية يا عباد الله !

مصطلحات بسيطة: التصوف عَلَم لعِلْم ،وما يلقن فيه يسمى طريقا ً،واختياره سلوکا ً،والذي يختاره سالکا ،هذه معاني بسيطة جنت عليها الکلمات فحولتها من معالم الوضوح إلى عوالم الخفاء حتى أصبحت(التصوف) لدى البعض کلمة مبشعة تنکرهها القلوب وتملها الأسماع وتستوحشها العقول .وقد أصبح الناس في هذا العلم رغم أنه هو التزکية نفسها ۔من بين مبغض قالٍ ومحب غالٍ،أفرط فيها الجَهَلَة الصوفياء إفراطا أدّى إلى اختراع وابتداع، واعتبار الوسائل مقاصد، والتفرقة بينه وبين الشريعة وما إلى ذلک ،بجانب ما فرط فيه البعض فشنوا عليه الغارة بمجرد النظر إلي هذه المحدثات من دون امعان النظر في کنهه وغايته ومرامه. في هذاالمجلس نودّ أن نُميط اللِّثام عن هذه الحقيقة السافرة التي کانت وما زالت جزء أساسيّامن أهمّ أجزاء الشريعة الاسلاميّة ،ومراما منيفا من أهمّ مقاصد البعثة المحمّديّة على صاحبها التحيّة والسّلام. غرضه کل ما يُبذَل في هذاالمجال من جهود ومحاولات ،وما يؤدي فيه من أوراد وأشغال ،إنما يستهدف غرضا ساميا هو أنبل غرض استهدفه البشر ،ألا وهو الحصول على مرضاة الله عزّ وعلا .وليس حقيقته إلا أن يقوم المرء بأداء الأعمال۔ الظاهرة منها والباطنة حسب ما يشاء الله ويرضاه .فالظاهرة ما يمارسها الجسدکالصلاة والصوم والحج.والباطنه مايقوم بها القلب من الصبر والتواضع والشکر،وعکسها من التجبر والاستکبار والکفران وما إلى ذلک.وبما أن القلب يحتل الصدارة من بين سائر الأعضاء ،لذا فلأعماله دور بارز وأثر قويّ في إصلاح الأعمال الظاهرة، فبالإخلاص تُقبَل الأعمال ،وبالخشوع تحسن الصلوات، وبالصبر تحلو الحياة وما إلى ذلک .ولکن من جانب أخر فالعثور على ما فيه من السلبيات صعب جدا حيث أن ما تمر به من خواطر الذنوب وتترسخ فيه من دسائس النفوس لايمکن للمرء أن يعثرعليها أويهتدي إليها إلا بإرشاد من مرشد محنک وصالح ، هاک الاستکبار مثلا فربّما يُبتَلَي به المرء من دون أن يشعر أنه يرتقف کبيرة هي من أعظم الکبائر يحرم صاحبَها الجنّةَ حسب نص الحديث الصّحيح . وما يحدث في عالم القلب من الايجابيّات يُسمَّى ''فضائل'' والسّلبيّات يُسمَّى ''رذائل'' .فالعلم الذي يتحدّث عن الفضائل ويرشد إلى حصولها، وعن الرّذائل ويدلّ على طرق تحذيرها يُسمَّى تزکية أو إحسانا أو تصوّفا. وهو الّذي أفرده الله بالبيان في صدد بيان مقاصد البعثة المحمديّة على صاحبها الصلاة والسلام قائلا :(ويزکّيهم ) وهذا يدلّ على أنهّا غير العلم وأنها مطلوب شرعيّ مثل التعليم والتلاوة. من أين نبدأ ؟ الشعور بالحاجة إلى إصلاح النفس ثم الالمام به أوّل خطوة يخطوها من يريد تزکية النفس وإصلاح الأعمال، فإنّ اقتناع المرء بما عليه من الأعمال والروتينيات عرقلة کبيرة في سبيل التزکية. هذا والقرآن يأمرنا أن نهتمّ أوّلاً بشؤن أنفسنا خاصّة (ياأيها الذين أمنوا عليکم أنفسکم ) وهي الطريق التي سلکها النبي صلي الله عليه وسلم في تربية الصّحابة ،حيث أحدث فيهم أوّلاً العناية بشؤن النفس والمحاسبة المحايدة لأعمالها ،وأخيرا فلقد انتجع هذا الأسلوب وأنتج نتائج حسنة لغاية ما قد أدهشت العقول وحيرت النفوس.وهذا من الطبيعيّ أن من شعر بمرضه يتردّد إلى الطبيب و يمتثله فيما يأمره به حتى يأتي عليه يوم ولامرض به ولا سقم ،أما من لم يول مرضه عناية ولا تفکيرا فلا تزال تتأصّل فيه جذورُ المرض فيعيش مريضا ويموت مريضا، ولإحداث هذه الفکرة نسخةٌ، وصفهاالنبي صلي الله عليه وسلم لمرضي القلوب قائلا :(أکثروا ذکر هاذم اللّذات الموت) ويا لهامن نسخة صائبة ناجحة ولکنّها للأسف ۔ فاتتنا اليوم تماما ،فما أسرع ما ننسي أونغفل ! ندفن موتانا فسرعان ما ننسي أن مصيرنا المصير نفسه وطريقنا الطريق نفسها ! ثانيا : بعد الالمام بالاصلاح لا بد أن نُحدث التّوبةَ ونکملها .وحقيقتها کما تعلمون النَّدَم على المعاصي، والتَّخلِّي عنها حالا والعزم على عدم العود إليها مآلا.والتّوبة إذا کانت نَصوحا تعدم جبال المعاصي کيفما کانت وتجعل صاحبها کأنّه لم يقترفها قط حسب نص الحديث :( التائب من الذنب کمن لا ذنب له ). وفي ضوء هذا الحديث يقول الشيخ التهانوي رحمه الله :التوبة شيء بسيط، ولکن قصفها تنسف جبال المعاصي الجسام نسفا ! وتکميلها بتدارک ما فرط في حقوق الله ۔ کالصلاة والصوم ۔ وما ضيع من حقوق العباد. وبالتوبة قد صفاک الله من المعاصي السابقة تماما،فإياک أن يشغلک التفکير فيها من المضي قدما في مجال الإصلاح،واياک أن يأخذها الشيطان وسيلة لقنوطک من رحمة الله ليشکلها حجابا بينک وبين الله! وکان الشيخ مسيح الله يقول :خل الماضي وما فيه مضى، دع المستقبل ومافيه يحدث ،ورکز نظرک على إصلاح ''حالک ''التي کان مستقبلک بالأمس ويکون ماضيک غدا . بعدين أقبل على الإصلاح ،هنا سوف تجد الصراع محتدما بينک وبين نفسک وهواها، ولکن اياک أن تصرع ! ولاسمح الله لو ذهبت بک هواک إلى المعصية فهنالک الصراع أشد وأحدم !نفسک تصور لک القنوط واليأس،وتخيل لک أن سلوکک على طريق الإصلاح وبقائک على التوبة شبه مستحيل لو لم يکنه .ولکن حذار حذار ! فأبواب مغفرة ربک مفتوحة دوما ! ينتظرک متى تتوب وتعود،لذا فاذا غويت بک نفسک استغفره لذنبک ثانياوثالثا و..و.فإنه (ما أصر من استغفر ولو عاد سبعين مرة وتأکد أن المواظبة على تحديث التوبة سوف تجعل في أيام قلائل الثبات يستقبلک بحفاوة ، فقد قال الله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) أمور تعينک على الاصلاح : (1) المواظبة على الذکر : فإنه طاقة روحية تشحن بها بطارية قلبک فتقودک إلى الإمام في مجال الإصلاح لذا فاختر لنفسک وردا تعض عليه بالنواجذ مواظبا ومداوما، فما قل ودام خير مما کثر يوما وانعدم أخر .وفي المرحلة البدائية ألقنک أن تواظب على الکلمات الأربعة التالية: الاستغفار (مائة مرة) الصلاة على النبي صلى اللله عليه وسلم (أيضا) سبحا ن الله والحمد لله ولااله الا الله والله أکبر (أيضا) سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم (أيضا) لاحظ أن المواظبة على هذه الأذکار البسيطة سوف تمکنها لتلعب دورا في إصلاح قلبک وتحليةنفسک ، فواظب حتى ولو فاجأک يوما أمر، أو شغلک شغل، أو داهمک خطب ،أو واجهتک أزمة فالأفضل من أن تترکها تماما أن تتنازل فيها عددا إلى 33 أو 11 مرة ولکن إياک أن تفوتک رأسا فإنه يکاد يثقب في قلبک فيوصله إلى ذروة الصلاح و التقى ،کما أن قطرة من الماء تتمکن من الثقب في الصخرة إذا هي توالت واستمر سقوطها ، بينما شلال فائض يمر على الصخرة دفعة من دون أن يترک فيهاکبير أثر وهذا فإن من سنة الله أن ما دام وتوالي أثّر وأثمر ولو قلّ. (2) مجالسة أهل الله ، فإنه ليس شيء أعون على الإصلاح من حضور مجالسهم وسماع خطبهم ومواعظهم،فمن البدهي أن للصحبة أثرا ملموسا في تکوين الشخصية حسب :(فالمرء على دين خليله) فجالس الحسن أو ابن سيرين يفيدونک دينا وخلقا.و فرضا لولم تکن عندک فرصة أو لم تجد من تتردد إليه فبإمکانک أن تحضر مجالسهم من خلال عالم الکتب ،تقرأ أخبارهم وأحوالهم وتراجمهم وقصص حياتهم ،سوف تجد فيها نورا يعينک على الإصلاح ويسهل لک السلوک على طريق التزکية. وانطلاقا من هذا المبدأ نرى القرآن الکريم يسرد غير مرة قصص الأنبيا ء.

الشيخ محمد تقي العثماني حفظه الله

نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي بجدة
مجموع المواد : 43
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024