لماذا لا أكتب..؟
من عادتي أني أبحث عن الملكات الأدبية دوما في الشباب، وأحاول أن أستنهضها، وأحب أن أرى أقلاما طامحة تكتب وتنجح في نشر الخير في العالم..
فالدعوة ليست مقتصرة على اللسان، بل القلم أداة مهمة من أدوات الدعوة، لا سيما في زماننا الحاضر.. وما أقوله غير خفي على القارئ المثقف..
لكن أردت في هذه التدوينة أن أسوق لكم قصة لأحد زملاء القلم الذين هم عندي من النبهاء الأذكياء، وكان يكتب أحيانا مقالات قصيرة فننشرها في إحدى منصات النشر فيقرؤها كثير من الناس..
استمر على هذا أياما، ثم توقف فجأة عن الكتابة، ولم أعرف السبب، غير أني كنت أعلم حقا أنه لم يتوقف عن الكتابة بسبب الكسل، أو الانشغال عنها بأمور أخرى، فأنا أعرف جدّيته في أمر الكتابة..
فذهبت إليه أستفسره عن الأمر، وقلت له:
"مالك رغبت عن الكتابة، ولم تعد تُخرِج إلينا شيئا من كتاباتك التي كنت تتحفنا بها بين الأحيان؟"
قال: "لم أرغب عن الكتابة"، قلت: "إذن، لماذا تركت الكتابة؟"
قال:
"قد علمتَ أني أحببتُ الكتابة حبا خالط صميم قلبي، وأخذ أغلب أجزاء اهتمامي، وأردتُ دومًا أن أكون بقلمي طبيبا أداوي به جروح المكروبين، ومحاربا أنقضّ به على الظالمين المعتدين، وغيما يحمل خيرا عميما لأهل الأرض أجمعين؛ فبدأت المسير، أجهّز نفسي لهذه المهمّة، وأمهّد لقلمي الطريقَ إلى القمّة، وبقيت أقرأ كتب الماضين، وأتتبّع آثار الكاتبين السابقين، وأتمرّن على الكتابة، وأطبّق أساليب الصناعة، وأخوض فنون المعاني وصنوف الإنشاء، وبدأت أكتب شيئا يسيرا، وأنشرها ههنا وههنا، واجتمع علي عدد لا بأس به من الجمهور، يستملحون ما أكتبه ويعجبون به ويتأثرون، وأظهرت لي المقاييس أن عدد القراء سيزداد يوما فيوما، وقلمي الذي بدأ يتعلم الصول والجول، سيصبح محاربا متمرسا على مرور الأيام، حينئذ أردت أن أقف وقفةً، وأقتطف من الزمن لحظةَ استراحة..
سألت نفسي: ماذا تريد من الكتابة، فأجابت: الهدف من وراء الكتابة نشر الخير، فإن للقلم قوة وتأثير.
ثم نظرتُ إلى أصل الأمر؛ فإذا الأمر كله قائم على النتيجة، الأثر الذي يتأثر به قارئ كتابتي..
ثم نظرت في أصناف الكاتبين، فرأيتهم ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما:
القسم الأول: كاتبون أصحاب القلوب النقية والأعمال الزكية والإيمان القوي، والقسم الثاني: كاتبون ذوي القلوب الفاسدة والنوايا الخبيثة والإيمان الضعيف الذي لا يعدل التراب قيمةً
ثم نظرت؛ فرأيت أن الكاتبين ذوي القلوب الصافية والإيمان الراسخ استطاعوا بكتاباتهم أن يصنعوا مملكة عظيمةً للخير، وعالمًا كاملا للنقاء والبراءة والصفاء والفضيلة. نقاء أفئدتهم انعكست على قلوب القارئين فألبستهم نقاءً وصفاءً، وقوةُ إيمانهم امتدّ فشملَ قلوب القراء فلم يسَعهم إلا التأثر بهم والاستنارة.
ورأيت أن الكاتبين ذوي اليقين الفاسد، والنوايا السيئة، والإيمان المهلهل الضعيف، كتبوا وكتبوا، فزادو الطين بلة، ولم يُثمروا إلا نكدا، كتبوا في الشر فأفسدوا، وكتبوا في الخير فأفسدوا؛ ذهب ما كتبوه هباءً بسبب ضعف إيمانهم، وجفاف ينابيع قلوبهم، وخمود نار عقيدتهم، فضلوا وأضلوا..! فيا لهم من خاسرين..!
فيا أخي، جئتني تسأل عما جعلني أرغب عن الكتابة، والله لم أرغب عن الكتابة، إنما مخافتي من هذا الأمر الذي أخشى أن يصيبني جانب منه.. فيضلّ سعيي، ويضيع جهدي..
إني تسلحتُ بسلاح القلم، وأصلحت كلماتي، ونمّقتُ عباراتي، وتعلمتُ أساليب الكتابة وطرُق استخدام القلم، ولكن ذهلتُ في كل جهودي عن شيء قد بلغ من الأهمية ذروتَها، وهو أن الكتابة الخالدة بحاجة إلى إيمان راسخ، وقلب ذائب في نار الهم، وصدرٍ متفجّرٍ دمًا وألما، وبكاء الليالي، وآهات الأسحار..
فدعني أخي، إن للقلم حرمة وأمانة، وإني لا أريد أن أكتب لأجل الكتابة، فالكتابة ضرب من العبث والتسلية، عديمة المستقبل.. إني أريد أن أكتب لأجل الحياة الباقية، لأجل النفوذ إلى القلوب، لأجل نشر موتى الأفئدة، لأجل الكتابة الأبدية الخالدة التي لا تموت بذهابي، ولا تفني بفنائي..
إنك سألتني "لماذا لا تكتب؟"
إني لا أجدني قويا على تلك الكتابة، لذلك لا أكتب!