الكتابة فن، وما كل كاتب بفنّان!
لو قلتُ: "عندما أقابل حبيبتي، سأعطيها ورودا وأقول لها: أنت مثل الوردة"، ثم سألتُك: تأمل في الجملة، واذكر لي ماذا صنعت بك هذه الجملة، ستقول لي حتما: وماذا ستصنع فيَّ هذه الجملة البسيطة، كلُّ ما في الأمر أني عرفت بهذه الجملة الخبرية أنك ستقابل حبيبتك وتعطيها أزهارا وتخبرها أنها مثل الوردة.
ولكن لو غيّرتُ الجملة، بجملة أخرى أكثر جمالا ورونقا، مثلا لو قلت لك: "عندما أقُابلها سأجلب لها تسعة وثلاثين وردة ، وأقول لها : ها قد جمعت شملك مع أشباهك الأربعين!" [اقتباس من الرافعي]
أفلا تشعر بنشوة تدبّ في نفسك بجمال هذه العبارة، وتجدها أرقّ من الجملة التي قبلها. كثيرا ما نرتاح لقراءة كاتب ونستمتع بها، ونتعجّب من قدرته على الانتقال بك إلى عالم آخر، بعيدا عن عالمك الذي أنت فيه.. عالم مليء بالإحساس والمشاعر، تشعر فيه فجأة وكأنّك أصبحتَ إنسانًا آخر غير الذي كنته قبل لحظات.
هل سألت يوما؟ كيف يقدرون عليه؟ إنهم يستطيعون فعل ذلك لأنهم لا يفعلون مثل فعلنا: يرد على أحدنا المعنى في ثانية، فيكون لسانه أسبق من خاطرته فيلفظ الفكرة لفظا في أقل من ثانية، فأنى له الإبداع !
إن الذي يقدرون بأقلامهم وكلامهم أن يصنعوا عالماً جديدا، لا يقدرون عليه إلا لأنهم يعرفون قدر المعاني التي تتوارد عليهم، فيستقبلونها استقبالاً كريمًا، ويستضيفونها كما يستضيف أحدنا ضيفه، ولا يعجلون في التفوّه بها، بل ينتظرون نضجها في عقولهم كما ينتظر الطاهي الجيد تمام الطبخ على نار هادئة، ثم يتخيرون لها أحسن الكلمات وأجمل العبارات، كما يتخيّر والد لولدِه خيرَ الأسماء وأفضلها، حتى إذا اطمأنوا إليها، وكمُل مبناها وجمُل معناها، ودقّ مدخلُها ورقَّ مخرجُها، أرسلوها رياحين عطرةً إلى الناس فتفعل فيهم فعل المطر النافع في الأرض الطيبة.. فالكتابة فنّ، يتطلب صبرا وجهدا وتفانيا، وما كل من خط الكلام بفنان!