القرآن والجوال
ما أجمل ما قال أحد الشعراء في بيان حقيقة الدنيا قائلا:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت ** أن السلامة فيها ترك ما فيها
وقد تبلورت حقيقة الدنيا في هذين البيتين، وتبين أن كل من أحب العيش في الدنيا مع السلامة فلا بد له أن يترك ما فيها، وإن لم يترك فلا بد أن يتعرض بمشاكل عديدة، وليس المعنى أنه لا يفعل شيئا فيها، بل يعمل حسب الضرورة، ويأخذ منها ما يحتاجه، ولكن لا يخوض في ظلماتها حتى لا يتمكن من العودة منها...
قد يجعل عنوان هذه المقالة قارئا يتفكر فيه، ويقول: ما هي المناسبة بين القرآن الكريم والجوال؟ وقد يعتقد أن الكاتب يكتب فضائل كل واحد منهما بينما أن اعتقاده لم يكن في محله، بل هو بعيد عما يتصوره الكاتب في مقالته هذه، وذلك لأنه يريد أن يكتب في ضوء ما قال ذلك الشاعر، حتى يتبين لكل واحد حقيقة الدنيا وما فيها. وإن توغل فيها متوغل فإنه لا يكون سالما من خطورة تتولد من توغله فيها، كما لو أن أحدا دخل البحر فإنه أيضا مهما يكن ماهرا في السباحة غير أنه لا يخلو من خطورة غرق، لأن أمواج البحر قوية وعالية جدا، فقد تبلغه حيث لا يبقى له أثر على هذه البسيطة...
كذلك الدنيا تبلع المتوغل فيها حتى لا يتمكن من العودة خلفه، ولا يتمكن من الخروج منها بنجاح، بينما أن هذه الخطورة قد سميت بتقدم وتطور، حيث كل من توغل في الدنيا وما فيها فإنه يقال فيه: رجل متقدم ومتطور، وبناء على ذلك لم يتفكر ذلك الأخ في عودته منها، ولا يأخذ الاستعداد لها حتى يحين الوقت، فيعود منها صفر الأيدي.
وفي مقابل هذا كل من لم يخض في الدنيا وما فيها فإنه يشتهر على ألسنة الناس بلقب متخلف، ويقال عنه: إنه يعيش في العصر الجاهلي، ولا يعلم أمورا جديدة، فمثل هذا وإن كان في أعين الناس رجل متخلف، ولكنه في الحقيقة قد أدرك خطورة الدنيا وما فيها، وكأنه قد فهم ما قال ذلك الشاعر في شعره. فمثل هذا عودته تكون مباركة وتكون مع استعداد كامل...
بناء على توضيح ما قيل جئت مثلا حتى تتبلور الحقيقة أمام كل واحد، وحتى يعلم خطورة الدنيا وما فيها، ويتيقن أنه تقدم أم أنه في الحقيقة تخلف؟ فلو رجعنا قبل ثلاثين عاما لعلمنا أن آلة التواصل والاتصال لم تكن في هذا الشكل الموجود، بل كانت مربوطة بالأسلاك، ولا يمكن حملها في كل مكان، ولكن العصر تطور، وابتكر المبتكرون آلة جديدة صغيرة خفيفة حيث يستطيع حملها معه أينما يذهب، وله خدمات عديدة حيث لم تكن فقط مجرد آلة التواصل والاتصال، بل هي آلة تعمل كالتليفزيون، فنستطيع أن نقول: إنها تلفاز حجم صغير...
ولا ينكر أحد من فوائدها ومنافعها، إن كان استعمالها في حدود الشرع، أما لو كان استعمالها استعمالا حرا كما هو اليوم فإنها قد تضر صاحبها ضررا لا يدركه حاليا، ولكن قريبا سوف يدركه، فالناس قالوا: إنه تطور، والذي يستعمله يقال فيه: إنه رجل متقدم يعاصر العصر، بينما هنالك أحد لا يتوغل في استعمالها توغلا كاملا، بل يستعمله إن كان له حاجة، وإلا يكون بعيدا عنها فيقال عنه: إنه رجل متخلف يحب التخلف...
فكنت حائرا بين مفهوم تقدم وتخلف، وقد صعب علي أني ما ذا أحكم عليه؟ وقد شهدت الدنيا على ما حدثت تغيرات بوجودها، ومن تلك التغيرات أبعدت تلك الآلة الصغيرة التي تدعى جوالا عن تلاوة القرآن الكريم، وتفسيره، فكم من أناس لو سألوا: متى آخر مرة تلوت القرآن الكريم فيقولون: قبل ثلاثة أشهر، والبعض يقول: إني تلوته آخر مرة في رمضان. فلو يسأل: ما هو السبب؟ فيقول: إنه كثرة الأشغال وزحمة الأمور، بينما لو سُئِل: متى آخر مرة زرت جوالك فيقول لك: قبل ثوان...
أليست هذه خسارة عظيمة حيث إن المسلم استبدل ما هو الأدنى بالذي هو الأعلى، وقد نسي نسيانا تاما أن له عودة من هذه الدنيا، فلا بد له من الاستعداد لها، وإلا سوف يعود صفر الأيدي خائب الأمل. فلذلك أقول: إن توغلنا في الدنيا وما فيها نهائيا في الحقيقة ليس تقدما كما يظن البعض، بل هو تخلف، فنحن ما زلنا في تخلف مستمر...