سلسلة رمضانية: صلة الأرحام في مكة المكرمة

          القرابة شيء جميل للذين يصلونها، والذين يقطعونها فهم لا يعلمون قدرها، ولا يفهمون معناها، لأن معناها الحقيقي يؤدى إلى الوصل لا القطع، ثم إنه جزء من الدين، فمن باب أنه يعد من مكارم الأخلاق امتثلت أوامر عمتي، التي هي أرسلت ابنها إلي البارحة بعد ما فرغت من صلاة التراويح، وكانت تريد أن تكرمني بشيء من الحلويات، وتقصد أيضا زيارتي، فإنني في البداية أنكرت، ولم ألب دعوة ابنها، لأنني لم أكن بعلم أنه مبعوث من قبل عمتي، فكنت معتقدا بأنه هو يريدني، فقدمت إليه اعتذار التعب والخمول، ثم قال لي: إنه أمر من أوامر عمتك، فإذا  تريد قبولها فبها، وإلا أنا أخبرها. فقلت له مباشرة دون أي تمهيد: قبلت، وأذهب معك، فذهبنا إلى بيت عمتي، فما إن رأتني قبلتني، وكانت تقول: منذ متى وأنا في انتظارك... ثم ظلت تشكوني على عدم الزيارة، ولا سيما بعد وفاة جدتي ـ رحمها الله ـ فاعتذرت إليها دون أن أقول لها كلمة واحدة، لأنني بالفعل كنت مخطأ، وهي كانت صادقة فيما كانت تقول....

          فأجلستني في غرفة مكيفة قائلة: انتظر هنا، وأنا آتي لك خميصة، أعددتها بيدي، فجلست لكن بدأت الدموع تلمع في عيني، وكادت تسيل على خدي، غير أنني تمالك نفسي، ومنعته بالسيل مخاطبا نفسي: والله أين القرابة هذه الأيام؟ فكل واحد يرى نفسه مشغولا في أمور الدنيا، ولا يجد فرصة  ليحافظ على القرابة، ويزور أقرباءه، فما إن كنت منهمكا في أفكاري جاءت عمتي بصحن هريسة، وقدمته إلي قائلة: تناول يا ابن أخي، فقلت لها: أين صحنك؟ فقالت لي: أولا تناول أنت، ثم أنا أتناول، فأنكرت أمامها، وجعلت نفسي أمامها كالجبل، رغم من أن هذا العمل أيضا يعد سوء الأدب، لكني كنت أريدها تشاركني في الطعام، كما أنها تشاركني في الحديث... ففهمت بأنني مصر على رأيي، فقامت، وجاءت بصحن هريسة لها، فبدأت بتناولها، وأنا أيضا بدأت بتناولها....

          فبدأنا الحديث حول جدتي ـ رحمها الله ـ التي توفيت قبل شهر رمضان بشهر، فقالت لي: حدثني عنها، فقلت لها: ما ذا أحدثك عنها، ثم تذكرت بعض الأشياء التي حدثت خلال سفرنا إلى الحرمين الشريفين عام ألفين واثني عشر، لما سافرت مع جدتي للعمرة، فكنا ستة نفر، جدي وجدتي من الأب، وعمتي، وجدتي من الأم، وخالي، فكان عيشنا معا في غرفة واحدة في مكة المكرمة... وبما أن الغرف في الفنادق في مكة المكرمة هي مكيفة، ومظلمة إن لم توقد المصابيح، فلا يعلم ساكنها عن شروق الشمس، ولا عن غروبها، فهؤلاء الثلاث، أعني جدتي من الأب، وجدتي من الأم، وعمتي لم يكن يعلمن الأوقات، وكان سفرنا في شهر رمضان، فما كنا ننام ليلا، بل كنا ننام بعد الفجر...

          فلما كنا ننام كانت توقظني جدتي بعد مضي ساعتين من النوم، قائلة: يا حفيدي، قم، حان وقت صلاة الظهر، فكنت أفتح عيني، وكنت أنظر ساعتي، إذ بها تشير إلى أن الساعة الآن الثامنة صباحا، فكنت أقول لجدتي: يا جدتي، إنها الساعة الثامنة صباحا، ولا يزال الوقت باقيا لصلاة الظهر، فكنت أعود مرة أخرى إلى النوم، ولم يمض على نومي إلا ساعة، فتأتيني جدتي من الأم، لتوقظني لصلاة الظهر، فكنت أستيقظ بصعوبة، ما هذا؟ إنها الساعة التاسعة والنصف، فكت أقول لها: يا جدتي، إنها الساعة التاسعة والنصف، وما زال الوقت موجودا لصلاة الظهر، فكنت أرجع مرة أخرى إلى النوم، ثم بعد مضي ساعة تأتيني عمتي، وكانت تقول: قم يا ابن أخي، حان وقت الصلاة، وأنتم جميعا نائمون، فكنت أجلس قائلا: أنتن عجوزات لا يطاوعكن النوم، فما ذنبنا نحن؟ لماذا لا تتركن ننم قليلا؟

          فما إن سمعي جدي صوتي، قال لي: اسمع يا بني، في المدينة المنورة لما نسافر نأخذ غرفة مستقلة لنا على حدة، ولهن نأخذ غرفة مستقلة، حتى لا ننزعج، فقلت له: سمعا وطاعة يا جدي، سوف أفعل على مرامك، ولما سافرنا إلى المدينة فأخذنا غرفتين، غرفة لنا نحن الثلاثة، خاصة، والغرفة الثانية لهن، فما أجمل تلك اللحظات التي قضيناها معا في مدينة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكنت أتذكر جيدا بأنني أخذت سريرا بعيدا عن الباب، وخالي أيضا أخذه في الزاوية، أما جدي فلم يجد بدا من أن يأخذ سريرا قريبا من الباب، فلما نمنا أول يوم بعد وصولنا إلى المدينة المنورة، بدأت أسمع صوت جدتي، التي كانت تطرق باب غرفتنا، فقلت لجدي: يا جدي، المشكلة لم تنته بعد، فقم أنت بفتح الباب، وأفهم النسوة. أما أنا فلا أستطيع أن أفعل شيئا، فوالله إلى الآن أتذكر ضحك جدي ـ رحمه الله ـ الذي كان يضحك بصوت، وأنا وخالي نحن الثلاثة كنا نضحك، وجدتي المسكينة واقفة عند الباب، وما كانت تتحرك، بل كانت تتواصل بطرق الباب حتى جدي المسكين ـ رحمه الله ـ قام بفتح الباب، ثم قال لها: الوقت مبكر، فلا توقظننا، فنحن بأنفسنا نستيقظ للصلاة، فهي رجعت صامتة إلى غرفتها...

          فرأيت عمتي والآخرين يضحكون على ماحكيت لهم حكاية من ذكرياتنا، ثم طلبت مني عمتي، بأنني أتواصل في الحديث، ورأيت أن الدموع تلمع في عينيها، فحينئذ لم أستطع أي إنكار أمام طلبها، فقلت لها: نعم، تذكرت حكاية أخرى التي كانت تتعلق بجدي، ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ فقلت لها: إن جدي ـ رحمه الله تعالى ـ كان رجلا متحملا، فلم أر غضبا في وجهه، ولا سيما في السفر، فإن الإنسان يعرف في السفر  أنه رجل غضوب، أم أنه رجل صبور، فأنا جربت جدي من عدة نواحي، عند ما كنا في مكة المكرمة، لكني وجدته صبورا، فلما كنا في مكة المكرمة كان جدي ـ رحمه الله ـ يطوف حول الكعبة في النهار، والحرارة مرتفعة، وهو صائم، لكنه ما يبالي، فإنه قد قضى حياته في الزراعة، فلذا مشيه في النهار لم يكن يزعجه، بل كان سبب راحته، وذلك لأن ركبتيه كانتا تؤلمانه، فلما كان يطوف في النهار لم يكن يتألم كثيرا، لكنه لو طاف ليلا فكان يتألم كثيرا، فهو كان يطوف نهارا، أما أنا فكنت أطوف ليلا بسبب جدتي ـ رحمها الله ـ فبعد انتهاء التراويح كنت أنا وجدي ـ رحمه الله ـ نأتي إلى الفندق، فهو كان ينام، أما أنا فكنت آخذ جدتي على الكرسي المتحرك، فأدفعه، وكنت أذهب بجدتي للطواف، وبما أن المطاف يكون مزدحما ليلا، فكنا نتأخر، فعادة كنا نرجع إلى الفندق بعد الساعة الواحدة والنصف، فلما كنا نأتي إلى الغرفة نرى أن جدي هو مستغرق في نوم عميق، فكنت أوقظه مباشرة، وكنت أقول له: استيقظ يا جدي، ما هذا؟ أجئت للعبادة أم للنوم!؟ فكان يقول: من فضلك لا تزعجني، لكن أتذكر لهجته ـ رحمه الله تعالى ـ لم يقل هذا الكلام إلا بالمزاح، فكان يقوم، ويقول لي: اسمع يا حفيدي، لقد أيقظتني من النوم، وأزعجتني، فأنت تستحق أن تغرم، فكنت أقول له: ما هي الغرامة التي قررتها؟ فكان يقول: قررت أنك تشتري لنا قارورة مشروب الغاز، فكنت أشتري له، فكان يشرب، وهذا كان كل يوم، فمرة قلت له: شاركني قليلا في المشروب، فشاركني فلما شربت أعجبتني، فأنا أيضا بدأت أشرب معه كل يوم، وجدتي من الأب ـ رحمها الله ـ كانت تغضب علي وعلى جدي ـ رحمه الله تعالى ـ لكننا نحن ما كنا نبالي...

          لما حكيت هذه الحكاية نظرت إلى الساعة، فإنها كانت تشير إلى الحادية عشرة ليلا، فقلت لعمتي: أنا أستأذنك بالانصراف، فإن الأسرة في البيت ربما تنتظرني، فقالت لي: جزاك الله خيرا، وأريدك زيارة أخرى، فقلت لها: سوف أزورك قريبا إن شاء الله...

أ.د.خليل أحمد


مجموع المواد : 508
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025