من جمع القرآن الكريم في مجلد واحد! :من سلسلة القرآن الكريم.
حينما نزل القرآن الكريم لم تكن حينئذ ماكينات للطباعة، لكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد جعل عدة أسباب للحفاظ على كلامه، وهو القرآن الكريم، فكاتب الوحي من الكتاب دائما يكون عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى حينما ينزل القرآن الكريم على نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكتبه مباشرة على ورقة مروجة آنذاك، مثل: الجلد، وأوراق الشجرة وغير ذلك، والثاني أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يحفظونه مباشرة، حيث أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد شحذ أدمغتهم حيث كانوا يحفظون ما يرونه ويقرؤونه مباشرة، والدليل على ذلك هو أنهم كانوا يحفظون أنسابهم وأنساب فرسهم، وما إلى غير ذلك من القصائد والأبيات والأشعار...
فلما كمل نزول القرآن الكريم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاء جبريل ـ عليه السلام ـ بأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسمع النبي صلى الله عليه وسلم من أول القرآن الكريم إلى آخره حسب ترتيبه الحالي، وهذا العرض كان أول عرض، لأن جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد عرض القرآن الكريم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حسب ترتيبه الحالي مرتين، قبل وفاته...
فلما توفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأصبح القرآن الكريم محفوظا من جميع النواحي، إلا أنه لم يكن في مجلد واحد بل كان مكتوبا على عدة أوراق، حيث أنها كانت منتشرة ومبعثرة، فالخليفة الأولى حضرة أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قد جمع القرآن الكريم في مجلد واحد حيث أنه ـ رضي الله عنه ـ جعل زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ مسئولا لجمع القرآن الكريم في مجلد واحد، فقام بالمناداة في الأزقة والسكك وفي البيوت بأن كل من عنده شيء من القرآن الكريم مكتوب فليحضره إليه، فالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ قد أحضروا كل ما هو مكتوب عندهم من القرآن الكريم..
فاستعان زيد بن ثابت ـ رضى الله عنه ـ من حفاظ القرآن الكريم حيث أن اثنين من الحفاظ كانا يقرآن ما هو مكتوب على الجلد، فإذا كانت قرائتهما موافقة لما كتب على الجلدـ فكان يكتب وإلا ما كان يكتب، فهكذا قد أعد القرآن الكريم في مجلد واحد في زمن خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ...
ولقد أودع أبوبكر ـ رضي الله عنه ـ ذاك المجلد من القرآن الكريم عند أم المؤمنين حفصة بن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ، فبقي عندها إلى زمن الخليفة الثالثة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فلما جاء عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فطلب ذاك المصحف من أم المؤمنين حفصة بن عمر ـرضي الله عنهما ـ وأعد نسخ أخرى من هذه النسخة تحت إشرافه ثم أرسل تلك النسخ إلى بلدان المسلم حيث وضعت نسخة واحدة في جامع مسجد في كل مدينة من مدن كبرى، فبدأ الناس بنقل النسخ الأخرى من تلك النسخة حتى بلغ ملايين من النسخ إلى قارة آسيا وإفريقيا..
فليكن في علمك أن القرآن الكريم لم يكن مشكلا بالحركات، فلما جاء الحجاج بن يوسف الثقفي من خلفاء بني أمية ورأى أن الأعاجم يخطئون في قراءة القرآن الكريم وتلاوته فقام بتشكيل الكلمات والآيات حتى أصبح محفوظا من هذه الناحية، ثم الخط الذي استخدم قديما لم يكن مثل الخط الموجود، بل كان يختلف عنه تماما، فأنشأ بن مقلة من العصر العباسي خطا عربيا ما يسمى خط كوفي، فكتب القرآن الكريم بهذا الخط وبخط جميل..
فاستمر هذا العمل من جيل إلى جيل ومن قرن إلى قرن إلى أن جاءت الماكينات للطباعة، فدخل القرآن الكريم في مرحلة جديدة للحفاظ، حيث أنه بدأت طباعته بماكينات الطباعة، والصوت أيضا بدأ يسجل في تسجيلات ولقد جعل هذا العمل القرآن الكريم محفوظا أكثر فأكثر حتى يستحيل الخطأ البسيط في متنه، بل يستحيل تصور الخطأ فيه...
ويجدر بي أن أذكر شخصية لغوية وهي أبو سعيد الأصمعي الذي خرج من بيته مسافرا إلى قرى العرب البدويين للبحث عن معاني الكلمات التي هي في أذهان أولئك البدويين العرب، وبصدد هذا استغرق في سفره أكثر من ستة أشهر، وأراد استعمال كلمة "دمدم" التي وردت في القرآن الكريم، بأن العرب أين يستعملون هذه الكلمة، فمكث أكثر من ستة أشهر، لكنه لم يسمع من أي عربي تلك الكلمة...
فمرة كانت في أحد الأماكن خيمة، فالمرأة كانت تعمل خارج الخيمة وزوجها كان في داخلها، والأصمعي كان جالسا معه، وقدر المرق كان موضوعا على الموقد، ففجأة بلغت حرارة النار إلى مائة درجة حتى بدأ المرق في داخل القدر يغلي، فقالت المرأة حينئذ: يا رجل، دمدمت... فما إن سمع الأصمعي هذه الكلمة إلا وقد قفز بشدة الفرح قائلا: والله وجدت والله وجدت...
فالعلماء في كل عصر قد بذلوا جهودهم في تدوين اللغة العربية وفي الحفاظ عليها، فإثر جهودهم أصبحت اللغة العربية محفوظة على شكلها الأصلي كالقرآن الكريم، فلو لم تكن اللغة العربية محفوظة لعانى المسلمون اليوم من فهم القرآن الكريم، ككتب سماوي أخرى، حيث أنها لا تقرأ إلا بالترجمة، ولا تقرأ بلغتها الأصلية لكن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يقرأ بلغته...