هل الجاحظ حي ؟
لعل السؤال أثار حيرتكم و استعجابكم ، و لعلكم تصفونني بالجنون أو الحمق !! لعلكم تظنون أنى أتحدث في المنام !!
و لكني لست مجنونا و لا مغمى عليه و لا أرى شيئا في المنام !!
و بالرغم من هذا إلا أنني أرى أبا عمرو عثمان بن البحر الجاحظَ حيا يتحدث و يخطب ! يتحدث عن حياته و حياة المجتمع الذي يعيش فيه ... يتحدث عن الكتب التي يحبها و يلهث وراءها .. أراه مكبا على الكتب في ضوء المصباح الضعيف الذي لا يكاد ينير صفحةَ الكتاب الأبيض !!
أستمع إليه و هو يتحدث عن الأعراب البدويين الذين كانوا أقل تكلفا و أبر قلوبا و أصدق تعبيرا ... لا يعرفون تنميق العبارات و لا تزيين الكلمات بشيء من الخديعة أو بنوع من الكذب ....
الجاحظ الأديب الموسوعي العظيم الذي كان يبيع بعض الأشياء التافهة في سوق البصرة ؛ فرغب في العلم ، فأخذه من جلة العلماء في عصره و تبحر في النحو و الأدب و اللغة أراه يتجول في البوادي و الأرياف ليأخذ اللغة من الأعراب البدو الذين لم تمتزج لغتهم بخليط من الدارج و الدخيل !!
أراه منهوما بالمطالعة و الدراسة فيستأجر محلات الوراقين و يدرس كل ما يقع في يده من كتب للعرب أو الفرس أو اليونان... لايحب إلا العلمَ و لا يعيش إلا للعلم و لا يقوم و لا يقعد إلا على العلم ... أراه واقفا على غدير أو شاطئ نهر أو عند حظيرة الغنم أو الإبل ليعرف الحيوانات و يعرف طبائعها...
أراه يكتب و هو رجل الكتابة و الكتاب ؛ فيجيد و يحسن و يعده الأدباء النقاد من أغزر الكتاب و من أبلغهم .. له أسلوب عذب رائع أخاذ كتاباته تجذب النفوس و الأرواح و تصقل الذوق... أراه حيا لأنه يُسمعني أعذب الأحاديث و أحلاها..
فإن كل الكتاب الكبار الذين تركوا لنا ثروة ضخمة من علمهم و ثقافتهم و أدبهم أحياء ؛ يمكن لنا أن نجلس إليهم و نقضي معهم ساعات و ساعات ، و نستمع إليهم يتحدثون عن العهود التي قد ولت ، و عن الرجال و طبائعهم و المدن و بيئتهم ، و الأنهار و جمالهم ، و الحيوانات و خصائصها ، و الجبال و روعتها و جلالها !!
من أراد أن يتعرف على الجاحظ و يستمع إلى حديثه العذب السلس فعليه ب "البخلاء" و "الحيوان" و "البيان و التبيين" !