خصائص الفقه الحنفي (1)
إن خصائص الفقه الحنفي ومزاياه لا يمكن إحصاؤها ولا استقصاؤها في مقالة صغيرة، ولا بد لذلك من الكتاب الكبير. وبالرغم من ذلك سأذكر لك بعض ميزاته ملخصاً إن شاء الله تعالى.
1- ترجيح القرآن الكريم:
إن القرآن الكريم كلام الله سبحانه وتعالى، وهو المصدر الأساسي الأوّل للشريعة الإسلامية. فإذا تعارضت الأدلة من القرآن والحديث فيما بينها ظاهراً يقدِّم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى معنى القرآن الكريم. مثال ذلك: قد تعارضت الأدلة في حكم قراءة المقتدي خلف الإمام، ولكن القرآن الكريم صرّح حيث قال الله تعالى: [وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون] {سورة الأعراف: 204} وقد نزلت هذه الآية في الصلاة. وإن هذه الأية فيها أمران: الاستماع والإنصات. فإذا قرأ الإمام يجب على المقتدي أن يستمع لقراءته إن سمعها، وأن ينصت إن لم يسمعها.فثبت بهذه الآية أن قراءة المقتدي خلف إمامه منهي عنها.
وليس ترجيح القرآن الكريم من الحنفية في هذه المسألة فحسب، بل يمثل لذلك بمسائل كثيرة، لا مجال لذكرها هناك، فلذا أكتفي في كل نقطة بمثال واحد. وقد أصاب وأجاد من قال: مذهب النعمان أوفق بالقرآن.
2- الأخذ بالحديث الصحيح:
إن الحديث النبوي هو المصدر الأساسي الثاني للشريعة الإسلامية. وكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يأخذ بالحديث الصحيح إذا ورد في المسألة حديثان: صحيح وضعيف. مثال ذلك: مسألة أين يضع المصلي يده في الصلاة؟ قد ورد في ذلك حديثان: صحيح وضعيف. أما الحديث الصحيح فهو ما روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: مِن السنّة وضع الأكف على الأكف تحت السرّة. (سنن أبي داود، رقم الحديث: 756 من النسخة المصرية) وقد شهد بصحة هذا الحديث الحافظُ ابنُ قيِّمِ الجوزيةِ رحمه الله تعالى، حيثُ قال: حديثُ علِيٍّ صحيحٌ. (بدائع الفوائد، 3/61، دار الكتاب العربي، بيروت) وأما الحديث الضعيف فهو ما روي عن وائل بن حُجْر رضي الله تعالى عنه قال: صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. وقد أقَرَّ بضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى: حيثُ قال: إسناده ضعيف؛ لأن مؤمَّلا هو ابن إسماعيل سيئ الحفظ. (صحيح ابن خزيمة بتعليق الألباني، 1/272، رقم الحديث: 479) وإذا صار هذا الحديث ضعيفاً لكون مؤمَّل في إسناده، فكيف يُستدَلُّ به على مسألة وضع المصلي يده على الصدر؟ علا أنه لم يرو هذا الحديثَ بهذا اللفظ إلا مؤمَّلُ بن إسماعيل. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: ولم يَقل على صدره غيرُ مؤمَّل. (إعلام المؤقعين، 2/432، دار إحياء التراث العربي، بيروت)
فالغرض إن حديث علِيٍّ في هذا الباب هو الصحيح، وقد أخذ به الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى.
3- التطبيق بين الأحاديث المتعارضة ظاهراً:
كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يعمل بالأحاديثِ الواردةِ في المسألة، المتعارضةِ ظاهراً بكلها بالتطبيق بينها إذا أمكن ذلك. مثال ذلك: مسألة إلى أين يرفع المصلي يديه عند تكبيرة الإحرام؟ قد جاءت فيها الأحاديثُ مختلفةً. منها ما رواه عبد الله بن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة. (صحيح البخاري، 1/102، رقم الحديث: 735، وصحيح مسلم، 1/168، رقم الحديث: 390) ومنها ما رواه وائل بن حُجْرٍ رضي الله تعالى عنه أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلّم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبَّر حِيال أذنيه. (صحيح مسلم، 1/173، رقم الحديث: 401) ومنها ما رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة كبَّر، ثم رفع يديه حتّى يحاذي بإبهاميه أذنيه. (السنن الكبرى للبيهقي، 2/24)
فقد جمع الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بين هذه الأحاديث، وعمل بكلها بأن قال: يرفع المصلي يديه بحيثُ يحاذي بظهر كفَّيه المنكبين، وبأطراف أنامله أذنيه، وبإبهاميه شحمة أذنيه. وقد استحسن هذا الجمعَ من الإمام كثيرٌ من علماء غير مذهبه. قال الشيخ نواب صديق حسن خان رحمه الله تعالى: وجمع آخرون بينهما، فقالوا: يحاذي بظهر كفَّيه المنكبين، وبأطراف أنامله الأذنين، وتأيدوا لذلك برواية أبي داود عن وائل رضي الله تعالى عنه بلفظ: كانت حِيال أذنيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه. وهذا جمعٌ حسنٌ. (فتح العلّام شرح بلوغ المرام، 1/126، بولاق، مصر، الطبعة الأولى 1302 هـ)
[متواصل....]
________
محفوظ أحمد: كاتب إسلامي، خطيب في لندن.