البحث المختوم حول حديث "أصحابي كالنجوم" أو ما حكم حديث "أصحابي كالنجوم"؟
البحث المختوم حول حديث «أصحابي كالنجوم»
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بآثارهم اقتفى. أما بعد:
فأردت أن أتحفكم مقالةً حول حديث مشهور بين الناس، وقد اختلف العلماء في هذا الحديث: أي حديث «أصحابي كالنجوم» فمنهم من جعله موضوعًا، ومنهم من ضعفه، ومنهم من قواه، والحق أنه حسن صحيح بمجموع الطرق، كما ستراه واضحًا إن شاء الله.
وليس لمثلي أن يصحح حديثا ويضعف، لكني لما رأيت اختلافًا شديدًا بين العلماء في هذا الحديث شمرت عن ساعد الجد لتخريجه وتحقيقه لأستفيد بنفسي أولًا وأفيد الآخرين، ودفاعًا للأئمة والفقهاء الذين أوردوه في كتبهم مستدلين به، مفرعين عليه المسائل من أن يهدم أعداء الفقه والسنة أسسها.
فأشرع بحمد الله، وأقول:
قد ورد هذا الحديث عن ستة من الصحابة كما أعلم؛ عن عمر وابنه عبد الله وابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
وأقوى هذه الطرق طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فلذلك طعنوا فيه طعونًا لا يسمن ولا يغني من جوع، والحديث من طريق جابر رضي الله عنه حسن صحيح كما ستراه واضحا بعد تفنيد الاعتراضات الواردة عليه، وسأذكر أولًا أضعف الطرق بالترتيب إلى الأقوى ليكون القارئ أشد بصيرةً، ثم أردفه إن شاء الله بذكر الاعتراضات الواردة عليه، والجواب عنه، ثم أذكر مذاهب العلماء في قبول هذا الحديث والتفريع عليه كما ستراه إن شاء الله.
طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
أخرج الآجري في الشريعة(4/ 1691) وابن بطة في الإبانة(2/ 563) وعبد بن حميد(1/ 250) من طريق أبي شهاب الحناط عن حمزة الجزري، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال:
«مثل أصحابي مثل النجوم يهتدى به، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم».
وأُعل هذا الطريق بحمزة النصيبي الجزري: وهو ضعيف جدا متروك. لكن قال ابن عدي: له أحاديث صالحة وعامة ما يرويه مناكير موضوعة، والبلاء منه ليس ممن يروي عنه، ولا ممن يروي هو عنهم.
طريق ابن عباس رضي الله عنهما:
أخرج ابن بطة في الإبانة(2/ 564) أيضًا من طريق أبي شهاب عن حمزة بن أبي حمزة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ:
«إنما أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم».
وحمزة هو النصيبي: وقد مر. وتابعه جويبر. وهو ضعيف أيضًا، ولكن يحتمل عنه التفسير.
أخرج البيهقي في المدخل(1/ 162) من طريق عمرو بن هاشم البيروتي، حدثنا سليمان بن أبي كريمة، عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ:
«مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنتي فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة».
وفيه سليمان بن أبي كريمة وجويبر: وكلاهما ضعيفان، وقد تابع جويبر في هذا الحديث حمزة النصيبي. والراجح أن الضحاك سمع من ابن عباس كما قرره المزي في التهذيب. ونقل عنه قال: جاورت ابن عباس بمكة سبع سنين.
طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أخرج الخطيب في الفقيه والمتفقه(1/ 443) والبيهقي في المدخل(1/ 162) ونظام الملك في المجلسين من أماليه(1/ 52) وابن قدامة في المنتخب من علل الخلال(1/ 143) من طريق نعيم بن حماد، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمِّي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
«سألت ربي عز وجل فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحى إلي: يا محمد، إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوء من بعض، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى».
أعل هذا الحديث بأربع علل:
الأولى: ضعف نعيم بن حماد. والراجح عند الشيخين: الذهبي وابن حجر والجمهور أنه ثقة.
الثانية: ضعف عبد الرحيم بن زيد العمي: فإنه ضعيف بالاتفاق حتى قال بعضهم: متروك. ولكن تابعه عبد الرحمن بن زيد عند ابن بطة في الإبانة(2/ 563) ولعله أخوه، ولكنه مجهول.
الثالثة: ضعف أبيه زيد العمي؛ ففيه ضعف، قواه ابن معين في رواية والبزار والدارقطني والجوزجاني والأزدي، وقال هو وابن معين وأبو حاتم وأبو داود وابن عدي: يكتب حديثه. ووثقه الحسن بن سفيان الفسوي وابن شاهين وابن خلفون. وروى عنه الأئمة، وحسن له البغوي.
الرابعة: أعل بإرسال سعيد بن المسيب أيضًا، وقيل: إنه لم يسمع من عمر، ولكنه أعلم الناس بأحاديث عمر، وكان راوية عمر، ومراسيله أصح المراسيل. وهو مقبول عند غير واحد من الأئمة.
ثم الراجح أنه سمع منه. قال أبو طالب: قلت لأحمد بن حنبل: سعيد بن المسيب؟ فقال: ومن مثل سعيد ابن المسيب، ثقة من أهل الخير. قلت: سعيد عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟.اهـ. قال الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد: إن ابن المسيب كان يسمى راوية عمر بن الخطاب؛ لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته.اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب(4/ 87): وقد وقع لي حديث بإسناد صحيح لا مطعن فيه، فيه تصريح سعيد بسماعه من عمر، ثم أخرج بسنده من طريق مسدد في مسنده عن سعيد بن المسيب، قال: سمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يقول:
"عسى أن يكون بعدي أقوام يكذبون بالرجم، يقولون: لا نجده فى كتاب الله، لولا أن أزيد فى كتاب الله ما ليس فيه لكتبت إنه حق، قد رجم رسول الله ﷺ، ورجم أبو بكر، ورجمت".
وقال: هذا الإسناد على شرط مسلم.
طريق أنس بن مالك رضي الله عنه:
أخرج ابن أبي عمر في مسنده كما في المطالب العالية(1/ 17) قال: حدثنا عبد الله بن علي، عن سلام الطويل، عن زيد العمي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:
«مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم يهتدون بها إذا غابت تحيروا».
أعل هذا الطريق بثلاث علل:
الأولى: ضعف سلام الطويل؛ سلام بن سلم ويقال: ابن سليم: قال الشيخان: متروك، ولكن قال المغلطائي: وفرق أبو عبد الله الحاكم بين سلام بن سالم، وبين سلام بن سلم، فذكر في الأول ما ذكرناه، وفي الثاني قال: هو ثقة، وصحح سند حديثه في «مستدركه». ولما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب قول من قال: سلام بن سليم رده، وقال: الصواب: سلم.اهـ. والحاكم من أعلم الناس بالعلل. وفي كتاب ابن الجارود: ثنا إسحاق بن إبراهيم ثنا إسحاق بن عيسى عن سلام الطويل، وكان ثقة.
الثانية: ضعف زيد العمي ولكن قواه ابن معين في رواية والبزار والدارقطني والجوزجاني والأزدي، وقال هو وابن معين وأبو حاتم وأبو داود وابن عدي: يكتب حديثه. ووثقه الحسن بن سفيان الفسوي وابن شاهين وابن خلفون. وروى عنه الأئمة، وحسن له البغوي. فهو حسن الحديث.
الثالثة: ضعف يزيد الرقاشي: وهو من كبار العلماء والزهاد، ضعفه بعضهم من قبل حفظه، وأفرط فيه شعبة، فضعفه جدا. وقد حدث عنه ابن مهدي، وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة عن أنس وغيره، وأرجو أنه لا بأس به لرواية الثقات عنه من البصريين والكوفيين وغيرهم. وقال الأزدي: كان يهم ولا يحفظ، ويحمل حديثه لصدقه وصلاحه.اهـ. والقول فيه قول ابن عدي: إنه لا بأس به. فالحديث بهذا السند يصلح أن يكون شاهدًا للحديث الماضي.
طريق أبي هريرة رضي الله عنه:
أخرج القضاعي في مسند الشهاب(2/ 275) قال: أخبرنا أبو الفتح منصور بن علي الأنماطي، ثنا أبو محمد الحسن بن رشيق، ثنا محمد بن جعفر بن محمد، ثنا جعفر يعني ابن عبد الواحد، قال: قال لنا وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:
«مثل أصحابي مثل النجوم، من اقتدى بشيء منها اهتدى».
وأعل هذا الحديث بجعفر بن عبد الواحد الهاشمي: وهو مختلف فيه؛ فكذبه الدارقطني وضعفه غيره، وقال ابن عدي: منكر الحديث، وضعفه الذهبي وعد هذا الحديث من بلاياه، والصحيح أنه ثقة، وثقه أبو علي الغساني ومسلمة بن قاسم الأندلسي وابن قطلوبغا والحافظ المغلطائي، وهو من شيوخ أبي داود كما قال الحافظ مغلطائي وغيره، والمعروف أن شيوخ أبي داود كلهم ثقات، قال الخطيب البغدادي وابن نفطويه: وكان من حفاظ الحديث. فهو ثقة له مناكير، وعد ابن عدي مناكيره، وليس هذا الحديث منه. فهذا الحديث رجاله كلهم ثقات، إلا جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، وقد علمت أن تضعيفه ليس بذاك. فعلى كل حال لو قلنا بتوثيق جعفر وهو الذي أميل إليه، لصح الحديث. من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا. وقد اعتضد بطريق أنس وعمر رضي الله عنهما أيضًا. والطريق الآتي أصح طرقه.
طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
أخرج الدارقطني في المؤتلف والمختلف(4/ 1778) قال: حدثنا القاضي أحمد بن كامل بن خلف، حدثنا عبد الله بن روح، حدثنا سلام بن الحارث، حدثنا الحارث بن غصين، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ:
«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم(2/ 925) وابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام(6/ 82) من طريقه، فقالا: حدثني أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري، قال: أخبرنا أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي الأنصاري، قال أخبرنا علي بن عمر بن أحمد الدارقطني... فذكره.
وأخرج عبد الوهاب بن منده في فوائده(1/ 29) قال: أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن علي ثنا عبد الله بن روح المدائني... فذكره، ولفظه:
«أصحابي في أمتي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
وأخرجه أبو طاهر السلفي في العاشر من المشيخة البغدادية(1/ 33) فقال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، نا أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي، نا عبد الله بن روح، نا سلام بن سليمان، نا قيس بن الربيع، والحارث بن غصين عن الأعمش... فذكره. ولفظه:
«مثل أصحابي في أمتي كمثل النجوم بأيها أخذتم اهتديتم».
وأخرجه حافظ الدنيا ابن حجرالعسقلاني في الأمالي المطلقة(1/ 60) قال: أخبرنا أبو هريرة بن الذهبي إجازة، قال: أخبرنا القاسم بن أبي غالب عن محمود بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو الرشيد أحمد بن محمد الأصبهاني، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا عمر بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن روح.... فذكر مثل طريق أبي طاهر السلفي.
وأخرج الدارقطني أيضًا في غرائب مالك [كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي(2/ 230)] قال: حدثنا إسماعيل بن يحيى العبسي، حدثنا الحسن بن مهدي بن عبدة المروزي، حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد السكري، حدثنا أبو يحيى بكر بن عيسى المروزي، حدثنا جميل بن يزيد، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
«ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به لا يسعكم تركها إلى غيره، وما لم تجدوه في كتاب الله وكانت مني سنة فالعمل بها لا يسعكم تركها إلى غيرها، وما لم تؤتوا به في كتاب الله ولم تكن في سنة فإلى أصحابي فبأي قول أصحابي أخذتم اهتديتم، إنما مثل أصحابي مثل النجوم من أخذ بنجم منها اهتدى»
وطريق ابن عبد البر وابن حزم إلى الدارقطني أئمة ثقات.
وشيخ الدارقطني القاضي أحمد بن كامل، ثقة فقيه، من بحور العلم وأوعيته، فيه بعض التساهل، وقد تابعه ابن عقدة عند أبي طاهر السلفي، وعمر بن الحسن بن علي عند ابن منده والحافظ ابن حجر في الأمالي كما مر.
وشيخهم عبد الله بن روح المدائني الملقب بعبدوس: ثقة بالاتفاق.
واضطربوا في اسم شيخه، فعند الدارقطني في المؤتلف: سلام بن الحارث، وهو وهم فإنه لا يعرف راوٍ في هذه الطبقة من اسمه سلام بن الحارث، ووقع عند ابن عبد البر: سلام بن سليم، والصحيح أنه سلام بن سليمان كما ضبطه ابن حزم في الإحكام وابن منده وأبو طاهر السلفي، وقد مر.
وشيخ سلام هو الحارث بن غصين ثقة وسيأتي الكلام عليه.
وشيخه سليمان بن مهران الأعمش ثقة إمام.
وشيخه أبو سفيان طلحة بن نافع ثقة من رجال مسلم.
وشيخه الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
فالحديث ثابت.
وقد وردت على هذا الطريق اعتراضات، فأوردها وأجيب عنها بشكل المناقشة إن شاء الله ليكون أرسخ في الذهن.
الاعتراض الأول:
فإن قال ابن حزم: سلام بن سليمان، يروي الأحاديث الموضوعة وهذا منها بلا شك، فهذا رواية ساقطة من طريق ضعيف إسنادها.اهـ.
واغتر به الشيخ الألباني في الضعيفة(1/ 145) فقال: الحمل في هذا الحديث على سلام بن سليم -ويقال: ابن سليمان وهو الطويل- أولى فإنه مجمع على ضعفه، بل قال ابن خراش: كذاب، وقال ابن حبان: روى أحاديث موضوعة.اهـ.
قلت: كلا، بل هو ثقة له مناكير كما سأذكره إن شاء الله، وقد وهما هنا، لأن المعروف بهذا الاسم أي سلام بن سليمان في هذه الطبقة ثلاثة:
الأول: سلام الطويل الذي وهمه الشيخ الألباني وابن حزم، وضعف من أجله الحديث، وفي اسمه اختلاف؛ الصحيح أنه سلام بن سلم، وقيل: ابن سليم، وقيل: ابن سليمان، ولا تعرف له رواية عن الحارث بن غصين ولا قيس بن الربيع بل هو في طبقتهما. ولا تعرف لعبد الله بن روح المدائني رواية عنه.
والثاني: سلام بن سليمان المزني أبو المنذر البصري، صاحب عاصم، وهو كذلك في طبقة شيوخ الحارث بن غصين.
والثالث: وهو الصحيح، أنه سلام بن سليمان بن سوار المدائني أبو العباس الضرير.
والدليل على ذلك أنه ذكره المزي والذهبي والخطيب البغدادي وابن عساكر في شيوخ عبد الله بن روح، وذكره هو والمزي في تلامذة قيس بن الربيع الذي تابع الحارث بن غصين. وذكره الخطيب في تلخيص المتشابه(2/ 733) من تلامذة الحارث بن غصين. وسلام بن سليمان بن السوار: قال الذهبي في الكاشف: له مناكير، قال ابن عدي: منكر الحديث، ثم ذكر له بعض الأحاديث التي أنكرت عليها -وهذا ليس منها- وجعل الحمل في أكثره على غيره، ثم قال: و عامة ما يرويه حسان إلا أنه لا يتابع عليه.اهـ. وقواه الذهبي، فنقل عن أبي حاتم قوله: ليس بالقوي، ثم قال: ووثقه غيره.اهـ. ووثقه الحاكم في المستدرك، والنسائي في الكنى، والعباس بن الوليد كما في تاريخ دمشق.
فخلاصة القول: إنه ثقة له مناكير، وليس منها هذا الحديث.
الاعتراض الثاني:
فإن قال ابن عبد البر: هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول.اهـ.
قلت: كلا بل هو معروف، قال ابن حزم: هذا هو أبو وهب الثقفي، وقد عرفه البخاري فذكره في التاريخ الكبير(2/ 278) وسكت عنه، وتعقبه الحافظ ابن حجر العسقلاني في الأمالي المطلقة(1/ 61)، فقال: قد ذكره ابن حبان في الثقات وقال: روى عنه حسين بن علي الجعفي، فهذا قد روى عنه اثنان ووثق فلا يقال فيه مجهول.اهـ. قلت: ووثقه أيضًا ابن قطلوبغا، ولم يجرحه أحد، وروى عنه غير هذين أيضًا وقد ذكر الخطيب من روى عنه في تلخيص المتشابه كما مر.
هذا، وقد تابعه قيس بن الربيع وهو صدوق عند الشيخين والجمهور، وقد وثقه شعبة والثوري وكفى بهما توثيقًا، عند أبي طاهر السلفي بسند رجاله دون عبد الله بن روح -وهو ملتقى الأسانيد- ثقات إلا ابن عقدة: وهو أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي، وهو مختلف فيه، فبعضهم اتهموه بالوضع، ورده الدارقطني فقال: وأكذب من يتهمه بالوضع، إنما بلاؤه من هذه الوجادات قال ابن عبد الهادي والبرهان الحلبي: لا يتعمد وضع المتن لكنه يجمع الغرائب والمناكير وكثير الرواية عن المجاهيل. وقال الذهبي: أحد أعلام الحديث ونادرة الزمان وصاحب التصانيف على ضعف فيه. ووثقه الدارقطني وعبد الله بن أحمد النيسابوري والخطيب البغدادي وابن النجار، وكلهم وثقوه توثيقا مؤكدا، مبالغًا فيه.
الاعتراض الثالث:
فإن قال الزركشي في المعتبر: إنه منقطع فإن البزار صرح في مواضع من مسنده بأن الأعمش لم يسمع من أبي سفيان، ثم هو شاذ بمرة لكونه من رواية الأعمش، وهو ممن يجمع حديثه ولم يجئ إلا من هذه الطريق. ا.هـ.
قلت: كلا، إنه ليس بمنقطع، وذلك لأن البزار قد أكثر من رواية الأعمش عن أبي سفيان في مسنده، ولم أجد ما ذكره إلا هذا، قال البزار في البحر الزخار (14/ 61): وَأبُو سفيان اسمه: طلحة بن نافع، وقد روى عنه الأعمش حديثا كثيرا، وقد تكلم في سماع الأعمش منه.اهـ.هذا ما قاله وليس فيه أنه ينكر ذلك، بل هو ناقل فقط، والدليل عليه ما قلنا: إنه روى شيئا كثيرا من رواية الأعمش عن أبي سفيان، والأعمش راوية أبي سفيان، روى عنه أكثر من مائة وخمسين حديثًا، وقد صرح الحافظ المزي كونه من شيوخ الأعمش، ولم يتعقبه من جاء بعده كالحافظ الذهبي والحافظ ابن حجر وغيرهما. فقوله: وهو ممن يجمع حديثه... لا يعلل هذا الحديث لما علمت من إكثار الأعمش عن أبي سفيان. ثم إنه لا يكون شاذا إلا إذا خالف الثقات، وهنا لم تقع المخالفة، فكيف يحكم عليه بالشذوذ، نعم، لو قال: غريب لكان للكلام وزنٌ، والغريب لا يعلل الصحيح، وستعلم أنه ليس بغريب، لأنه قد توبع كما سيأتي.
الاعتراض الرابع:
فإن قال ابن حزم: أبو سفيان ضعيف.اهـ.
قلت: كلا، بل هو طلحة بن نافع، ثقة عند الجمهور وقد احتج به الشيخان البخاري ومسلم، والقول بأنه ضعيف أمر عجيب.
الاعتراض الخامس:
فإن قال قائل: إنه منقطع لقول شعبة: أبو سفيان لم يسمع من جابر إلا أربعة أحاديث.اهـ.
قلت: لم يوافق عليه، بل روى مسلم عن أبي سفيان عن جابر أكثر من عشرين حديثًا.
وقال البخاري: قال لنا مسدد، عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن أبى سفيان: جاورت جابرًا بمكة ستة أشهر.اهـ. فهل يعقل أنه لم يسمع في ستة أشهر إلا أربعة أحاديث.
وقال البخاري أيضا: قال علي وهو ابن المديني: سمعت عبد الرحمن وهو ابن مهدي قال: قال لي هشيم عن أبي العلاء، قال أبو سفيان: كنت أحفظ، و كان سليمان اليشكرى يكتب، يعنى: عن جابر.اهـ. وقد اشتهر عند المحدثين أنه راوية جابر، وصاحب جابر، ولم يرو عنه إلا أربعة أحاديث؟ أفيعقل هذا؟
هذا، وقد تابعه الإمام الباقر محمد بن علي عند الدارقطني في غرائب مالك، كما مر. ورجاله لا يعلم فيهم مجروح، إلا أن فيهم مجهولًا، ولا تعلل الجهالة الحديث إذا جاء مسندًا من طريق آخر مثله، أو توبع من مثله، فكيف إذا كان صحيحًا.
وذكر ابن حجر طريق عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وتكلم عليهما، ثم قال: وقد وقع لنا من حديث جابر، وإسناده أمثل من الإسنادين المذكورين.اهـ. وقد علمت أن الحديث بهذا السند حسن صحيح. فعلمت أن طريق جابر وأنس بن مالك وأبي هريرة رضي الله عنهم كل واحد منها حسن، وصحيح بمجموعه.
الاعتراضات الواردة على نفس المتن:
1- فإن احتج أحد عليه بما انتخبه ابن قدامة من علل الخلال(1/143): عن إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد عن من احتج بقول النبي ﷺ: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"؟ قال: لا يصح هذا الحديث.
قلنا: لم يضعفه من جميع الطرق، بل طريق عمر رضي الله عنه خاصة، وقد مر، والدليل على هذا أنه أسند بعده الحديث من طريق عمر رضي الله عنه. وإلا فأحمد كان يحتج بهذا الحديث كما روى عنه ابن عبد البر.
2- وأما قول الشيخ عبد الوهاب الشعراني في الميزان(1 / 28): وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين، فهو صحيح عند أهل الكشف.اهـ.
قلت: فهو دال على أنه لم يسبر الطرق كلها، وإلا فقد صح الحديث بحمد الله على قواعد المحدثين أيضًا.
3- فإن اعترض معترض بما أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم(2/923) عن البزار قال: سألتم عما يروى عن النبي ﷺ مما في أيدي العامة يروونه عن النبي ﷺ أنه قال: «إنما مثل أصحابي كمثل النجوم» أو «أصحابي كالنجوم فأيها اقتدوا اهتدوا» ، هذا الكلام لا يصح عن النبي ﷺ رواه عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ وربما رواه عبد الرحيم عن أبيه، عن ابن عمر، وأسقط سعيد بن المسيب بينهما، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد؛ لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضا منكر عن النبي ﷺ، وقد روي عن النبي ﷺ بإسناد صحيح: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ». وهذا الكلام يعارض حديث عبد الرحيم لو ثبت فكيف ولم يثبت؟ والنبي ﷺ لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه والله أعلم، هذا آخر كلام البزار.اهـ.
قلت: كلام البزار غير مقبول؛
أولًا: لأن عبد الرحيم بن زيد قد تابعه أخوه عبد الرحمن كما ذكرت سالفًا.
ثانيًا: قد روي الحديث من غير طريق عمر أيضًا، ثبت عن أنس وأبي هريرة وجابر بأسانيد حسنة كما ذكرت.
ثالثًا: قوله: "والكلا أيضا منكر..." كذلك غير مقبول؛ لأن حديث «عليكم بسنتي» معارض بحديث: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» لأنك قد علمت أن من الخلفاء الراشدين غير أبي بكر وعمر أيضًا. والجواب أنه يرجح قول الخلفاء الراشدين إن عورض بغيره من الصحابة. فلا مانع إذًا.
رابعًا: قد رده ابن عبد البر أيضا، فقال: "وليس كلام البزار بصحيح على كل حال؛ لأن الاقتداء بأصحاب النبي ﷺ منفردين إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه، ومن كانت هذه حاله فالتقليد لازم له، ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض إذا تأولوا تأويلًا سائغًا جائزًا ممكنًا في الأصول، وإنما كل واحد منهم نجم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل بمعنى ما يحتاج إليه من دينه وكذلك سائر العلماء مع العامة والله أعلم".
خامسًا: قوله:والنبي ﷺ لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه... رد عليه أيضًا، لأننا متفقون أن الصحابة اختلفوا، والنبي ﷺ نهى عن الاختلاف، والصحابة لم يكونوا يخالفون أمر النبي ﷺ إلا لما ترجح عندهم من الدلائل خلاف صاحبه، فليس أحد منهم يتبع الهوى فلذلك أمر الأمة باتباعهم والاقتداء بهم.
4- فإن قيل: قال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام(6/ 83): فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلا بلا شك أنها مكذوبة لأن الله تعالى يقول في صفة نبيه ﷺ: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فإذا كان كلامه ﷺ في الشريعة حقا كله فهو من الله تعالى بلا شك وما كان من الله تعالى فلا اختلاف فيه بقوله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وقد نهى تعالى عن التفرق والاختلاف بقوله {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن لله مع لصابرين} فمن المحال أن يأمر رسول الله ﷺ باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله عنهم وفيهم من يحلل الشيء وغيره منهم يحرمه ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالًا اقتداءً بسمرة بن جندب ولكان أكل البرد للصائم حلالًا اقتداءً بأبي طلحة وحرامًا اقتداءً بغيره منهم ولكان ترك الغسل من الإكسال واجبًا اقتداءً بعلي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب وحرامًا اقتداء بعائشة وابن عمر ولكان بيع الثمر قبل ظهور الطيب فيها حلالا اقتداء بعمر حراما اقتداء بغيره منهم وكل هذا مروي عندنا بالأسانيد الصحيحة تركناها خوف التطويل بها.اهـ.
قلت: كلامه مردود؛
أولًا: قوله: فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلا بلا شك أنها مكذوبة... قلت: بل ظهر أن هذه الرواية ثابتة بلا شك.
ثانيا: قوله: فمن المحال أن يأمر رسول الله ﷺ باتباع كل قائل من الصحابة... قلت: لو تتبع ابن حزم ومن تبعه طرق هذا الحديث لما تجاسر على هذا. انظر طريق محمد الباقر عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به لا يسعكم تركها إلى غيره، وما لم تجدوه في كتاب الله وكانت مني سنة فالعمل بها لا يسعكم تركها إلى غيرها، وما لم تؤتوا به في كتاب الله ولم تكن في سنة فإلى أصحابي فبأي قول أصحابي أخذتم اهتديتم، إنما مثل أصحابي مثل النجوم من أخذ بنجم منها اهتدى». وهذا المعنى مروي في حديث عمر أيضا. وإن النجوم لا هداية لها في وجود السراج. وإنما كان النبي ﷺ سراجًا منيرا. وكل هذه الأمثلة مما خالف بعضهم فيها النص لما قامت عنده من البينة. ولا اقتداء بالصحابة في مقابل النص. فزالت الشبهة. وإنما ينكر هؤلاء الظاهرية هذا الحديث لأن هذا الحديث من أدلة التقليد كما سأذكره إن شاء الله...
5- فإن قيل: قال ابن حزم في الإحكام(5/ 64): وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية أحدها أنه لم يصح من طريق النقل والثاني أنه ﷺ لم يجز أن يأمر بما نهى عنه وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره وكذب عمر في تأويل تأوله في الهجرة وكذب أسيد بن حضير في تأويل تأوله فيمن رجع عليه سيفه وهو يقاتل وخطأ أبا السنابل في فتيا أفتى بها في العدة، وقد ذكرنا هذا المعنى في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا مستوعبا فأغنى عن إيراده ههنا.وفيما ذكرنا كفاية فمن المحال الممتنع الذي لا يجوز البتة أن يكون ﷺ يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ فيكون حينئذ أمر بالخطأ تعالى الله عن ذلك وحاشا له ﷺ من هذه الصفة وهو عليه السلام قد أخبر أنهم يخطئون فلا يجوز أن يأمرنا باتباع من يخطىء إلا أن يكون ﷺ أراد نقلهم لما رووا عنه فهذا صحيح لأنهم رضي الله عنهم كلهم ثقات فعن أيهم نقل فقد اهتدى الناقل والثالث أن النبي ﷺ لا يقول الباطل بل قوله الحق. وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد وكذب ظاهر لأنه من أراد جهة مطلع الجدي قام جهة مطلع السرطان لم يهتد بل قد ضل ضلالا بعيدا، وأخطأ خطأ فاحشًا، وخسر خسرانًا مبينًا، وليس كل النجوم يهتدى بها في كل طريق فبطل التشبيه المذكور، ووضح كذب ذلك الحديث وسقوطه وضوحًا ضروريًّا.
قلت: أولًا: قوله: وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب من توليد أهل الفسق... قلت: بالله قل لي حديث يرويه ستة من الصحابة ويدل عليه حديث في صحيح مسلم والآيات القرآنية كما سأذكره إن شاء الله واضحات، يقول فيه الإمام ابن حزم: من توليد أهل الفسق... فمن أهل الفسق هؤلاء يا ترى!.
ثانيًا: قوله: والثاني أنه ﷺ لم يجز أن يأمر بما نهى عنه وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره وكذب عمر في تأويل تأوله في الهجرة... قلت: أجبت عنه في الاعتراض الماضي، ولكن جوابه على سبيل الإلزام: لو سلمنا كلام ابن حزم لوجب بطلان قوله ﷺ: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». لأن أبا بكر وعمر أخطآ...! وبطل قوله ﷺ للمرأة التي استفتته: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» في صحيح البخاري.
ثالثًا: قول ابن حزم: وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد وكذب ظاهر... قلت: هذا كلام ظاهر البطلان، فإن تشبيههم بالنجوم ثابتٌ في صحيح مسلم كما سأذكره إن شاء الله، وإنما الكلام في كونهم هداةً يقتدون بهم، فهو ثابت بدلالة النص لحديث مسلم وظاهر النص في هذا الحديث.
أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه(4/1961) عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ:
«النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون».
وأخرجه البيهقي في الإعتقاد(1/318) ثم قال: وروي عنه في حديث موصول بإسناد آخر غير قوي، وفي حديث منقطع أنه قال: «إن مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء؛ من أخذ بنجم منها اهتدى». والذي رويناه هاهنا من الحديث الصحيح يؤدِّي بَعْضَ مَعْنَاه.
قال ابن حجر في التلخيص(4/ 464) بعد نقله عن البيهقي: قُلْت: صَدَقَ الْبَيْهَقِيُّ، هُوَ يُؤَدِّي صِحَّةَ التَّشْبِيهِ لِلصَّحَابَةِ بِالنُّجُومِ خَاصَّةً، أَمَّا فِي الِاقْتِدَاءِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَمَّحَ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الِاهْتِدَاءِ بِالنُّجُومِ.
وقال الملا علي القاري في المرقاة(9/ 3882): الظَّاهِرُ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ فَرْعُ الِاقْتِدَاء.اهـ فثبت هذا المعنى بحمد الله.
رابعًا: قوله: "أنه من أراد جهة مطلع الجدي قام جهة مطلع السرطان.." أوضح دليل على ظاهريته؛ لأن الناظر إلى مطلع السرطان يدرك أن أن مطلع الجدي في الجهة الأخرى. والاقتداء بالنجوم ليس بتقليدها، بل بموازنة النجوم بعضها ببعض كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالفلكيات.
وهناك آيات قرآنية تدل على اقتداء الصحابة رضي الله عنهم:
{فَإِن ءَامَنُواْ بمثلِ ما ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ ٱهتَدَواْۖ} [سورة البقرة:137]
{وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّة يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [سورة السجدة:24]
أخرج الترمذي(5/ 696) وأحمد(27/ 357) وابن حبان في صحيحه(16/ 244) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
«الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه».
والمفهوم المخالف لهذا الحديث أن نقتدي بهم لنهتدي.
قال الرازي في تفسيره المسمى مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير(25/ 150) في قوله تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا... قال: فحيث جعل الله كتاب موسى هدى وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صحابة يهدون كما قال عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
فتبين لك أن هذا الحديث صحيح، ولقد أجبت إن شاء الله عن جميع ما أوردوه على هذا الحديث مما لم أوافقهم عليه.
مذهب العلماء في قبول هذا الحديث:
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله(2/ 898): اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين:
أحدهما أن اختلاف العلماء من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة، رحمهم الله، رحمة واسعة وجائز لمن نظر في اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ أن يأخذ بقول من شاء منهم.
كذلك الناظر في أقاويل غيرهم من الأئمة ما لم يعلم أنه خطأ فإذا بان له أنه خطأ لخلافه نص الكتاب أو نص السنة أو إجماع العلماء لم يسعه اتباعه.
فإن لم يبن له من هذه الوجوه جاز له استعمال قوله، وإن لم يعلم صوابه من خطئه وصار في حيز العامة التي يجوز لها أن تقلد العالم إذا سألته عن شيء وإن لم تعلم وجهه، هذا قول يروى معناه عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه والقاسم بن محمد، وعن سفيان الثوري إن صح عنه وقال به قوم.
ومن حجتهم على ذلك قوله ﷺ: «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم».
ثم أخرج عن القاسم بن محمد قال: "لقد نفع الله تعالى باختلاف أصحاب النبي ﷺ في أعمالهم، لا يعمل العالم بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة ورأى أنه خير منه قد عمله». وفي رواية: «لقد أوسع الله على الناس باختلاف أصحاب محمد ﷺ، أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء".
وأخرج عن رجاء بن جميل قال: اجتمع عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد رضي الله عنهما فجعلا يتذاكران الحديث، قال: فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم قال: وجعل ذلك يشق على القاسم حتى تبين فيه فقال له عمر: "لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم".
وأخرج عن القاسم بن محمد قال: أنه قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "ما أحب أن أصحاب رسول الله ﷺ لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة".
ونقل عن أبي حنيفة قال: "أما أصحاب رسول الله ﷺ فآخذ بقول من شئت منهم ولا أخرج عن قول جميعهم، وإنما يلزمني النظر في أقاويل من بعدهم من التابعين ومن دونهم" ثم قال ابن عبد البر معلقًا عليه: قد جعل للصحابة في ذلك ما لم يجعل لغيرهم وأظنه مال إلى ظاهر حديث: «أصحابي كالنجوم». والله أعلم. وإلى نحو هذا كان أحمد بن حنبل رحمه الله يذهب.
ثم أخرج عن محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال: قلت لأحمد بن حنبل، إذا اختلف أصحاب رسول الله ﷺ في مسألة هل يجوز لنا أن ننظر في أقوالهم لنعلم مع من الصواب منهم فنتبعه؟ فقال لي: لا يجوز النظر بين أصحاب رسول الله ﷺ فقلت: فكيف الوجه في ذلك؟ قال: "قلد أيهم أحببت".
ثم قال ابن عبد البر معلقًا عليه: ولم ير النظر فيما اختلفوا فيه خوفا من التطرق إلى النظر فيما شجر بينهم وحارب فيه بعضهم بعضا.
قال ابن عبد البر: وأما مالك والشافعي رضي الله عنهما ومن سلك سبيلهما من أصحابهما وهو قول الليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي ثور وجماعة أهل النظر أن الاختلاف إذا تدافع فهو خطأ وصواب، والواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول على الصواب منها وذلك لا يعدم فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة، فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف ولم يجز القطع إلا بيقين فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد...
ثم أخرج عن ابن القاسم قال: سمعت مالكا، والليث، يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله : ليس كما قال ناس: فيه توسعة ليس كذلك؛ إنما هو خطأ وصواب.
وأخرج عن أبي حنيفة رحمه الله أيضًا أنه قال في قولين للصحابة: أحد القولين خطأ، والمأثم فيه موضوع.
ونقل عن إسماعيل القاضي قال: إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ توسعة في اجتهاد الرأي فأما أن يكون توسعة لأن يقول الناس بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا.
ثم قال ابن عبد البر: كلام إسماعيل هذا حسن جدا.
وأخرج عن إسماعيل بن يحيى المزني، قال: قال الشافعي رحمه الله في اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ: أصير منهما إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو كان أصح في القياس وقال في قول الواحد منهم: إذا لم يحفظ له مخالف منهم صرت إليه وأخذت به إذا لم أجد كتابًا ولا سنةً ولا إجماعًا ولا دليلًا منها هذا إذا وجدت معه القياس.
ونقل أيضًا عن المزني قال:
يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة فقال أحدهما: حلال وقال الآخر حرام فقد أدى كل واحد منهما جهده وما كلف، وهو في اجتهاده مصيب الحق، أبأصل قلت هذا أم بقياس؟ فإن قال: بأصل، قيل له: كيف يكون أصلا والكتاب أصل ينفي الخلاف، وإن قال بقياس قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل فضلًا عن عالم ويقال له: أليس إذا ثبت حديثان مختلفان عن رسول الله ﷺ في معنى واحد فأحله أحدهما وحرمه الآخر وفي كتاب الله أو في سنة رسول الله ﷺ دليل على إثبات أحدهما ونفي الآخر أليس يثبت الذي يثبته الدليل ويبطل الآخر ويبطل الحكم به، فإن خفي الدليل على أحدهما وأشكل الأمر فيهما وجب الوقوف فإذا قال: نعم ولا بد من نعم، وإلا خالف جماعة العلماء، قيل له: فلم لا تصنع هذا برأي العالمين المختلفين؟ فتثبت منهما ما أثبته الدليل وتبطل ما أبطله الدليل؟
ثم قال ابن عبد البر: ما ألزمه المزني عندي لازم؛ فلذلك ذكرته وأضفته إلى قائله؛ لأنه يقال: إن من بركة العلم أن تضيف الشيء إلى قائله.
ونقل أيضًا عن المزني قال في قول رسول الله ﷺ: «أصحابي كالنجوم» قال: إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليه فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به لا يجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه برأيهم فلو كانوا عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضًا ولا أنكر بعضهم على بعضٍ ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه فتدبر.
قال الزركشي في تشنيف المسامع بجمع الجوامع (3/ 36): استدل القائلون بحجية المصالح المرسلة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بها، وإجماعهم حجة، فهم أقرب الناس إلى رسول الله ﷺ، وأفهم الناس بالتشريع، وأعرفهم بأسراره، وأشد الناس تمسكاً به، فهم القدوة والأسوة في النظر فنهجهم مستمد من نهج رسولهم ﷺ والاقتداء بهم وارد في حديثه ﷺ: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
قال إمام الحرمين الجويني في كتاب الاجتهاد (1/ 52): ومما استدلوا به ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» فنقول لهم بما تنكرون على منيزعم أنه أراد بذلك أمر العوام في عصره بالاقتداء بالعلماء، فان قالوا:إن اللفظة عامة. قيل لهم: ونحن لا نقول بالعموم على أنكم خصصتم اللفظ في حق الصحابة بعضهم مع بعض.
والذي يوضح بطلان احتجاجهم أن اللفظة منبئة عن تخيير والدليل على ذلك أنه ﷺ قال: «بأيهم اقديتم اهتديتم». وهذا في الظاهر ينبىء عن اختلافهم في المسألة الواحدة ثم يخير المجتهد في الاخذ بقول ايهم شاء ولو اختلفوا لسقط الاحتجاج بقولهم عند مخالفينا فسقط استدلالهم من كل وجه.اهـ.
قال السبكي في رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 515): قالوا : «أصحابي كالنجوم» ، «اقتدوا باللذين من بعدي». وأجيب: بأن المراد المقلدون؛ لأن خطابه ﷺ للصحابة.
قال أبو إسحاق الشيرازي في التبصرة (1/ 368): اتفاق أهل بيت رسول الله ﷺ ليس بحجة، وقالت الرافضة هو حجة؛ لنا قوله تعالى:{ويتبع غير سبيل المؤمنين} فعلق الوعيد على ترك سبيل المؤمنين فدل على أنه لا يتعلق ذلك بترك سبيل بعضهم، وأيضا قوله عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وهذا يدل على أنه إذا ترك عليا عليه السلام وقلد غيره يكون مهتديا.
قال السبكي الكبير في الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي (2/ 377): وثانيها ما روي من قوله ﷺ: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» .... فأخذ يتكلم في الكلام عليه، ثم قال: وأجاب بأن الخطاب ليس لجميع الصحابة ولا للمجتهدين منهم إذ ليس اتباع واحد منهم للآخر أولى من العكس فتعين أن يكون الخطاب مشافهة للعوام الذين في عصر الصحابة وإذا كان كذلك وقد انقرضوا فعوام العصر الثاني وخواصهم غير مخاطبين بهذا الحديث.اهـ.
قال السرخسي في أصوله(2/ 107): ولا حجة لكم في قوله ﷺ: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» لأن المراد الاقتداء بهم في الجري على طريقهم في طلب الصواب في الأحكام لا في تقليدهم وقد كانت طريقتهم العمل بالرأي والاجتهاد، ألا ترى أنه شبههم بالنجوم وإنما يهتدي بالنجم من حيث الاستدلال به على الطريق بما يدل عليه لا أن نفس النجم يوجب ذلك، وهو تأويل قوله: اقتدوا بالذين من بعدي وعليكم بسنة الخلفاء من بعدي فإنه إنما يعني سلوك طريقهم في اعتبار الرأي والاجتهاد فيما لا نص فيه، وهذا هو المعنى، فقد ظهر من الصحابة الفتوى بالرأي ظهورا لا يمكن إنكاره، والرأي قد يخطئ فكان فتوى الواحد منهم محتملا مترددا بين الصواب والخطأ، ولا يجوز ترك الرأي بمثله كما لا يترك بقول التابعي، وكما لا يترك أحد المجتهدين في عصر رأيه بقول مجتهد آخر.
قال الرازي في تفسيره المسمى بمفاتيح الغيب (25/ 174) في تفسير قوله تعالى: ﴿وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا﴾: اللطيفة الثانية: قال في حق النبي عليه السلام سراجا ولم يقل إنه شمس مع أنه أشد إضاءة من السراج لفوائد منها، أن الشمس نورها لا يؤخذ منه شيء والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة فإذا انطفأ الأول يبقى الذي أخذ منه، وكذلك إن غاب والنبي عليه السلام كان كذلك إذ كل صحابي أخذ منه نور الهداية كما قال عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وفي الخبر لطيفة وإن كانت ليست من التفسير ولكن الكلام يجر الكلام، وهي أن النبي عليه السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه نور بل له في نفسه نور إذا غرب هو لا يبقى نور مستفاد منه، وكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي عليه السلام ولا يأخذ منه إلا قول النبي عليه السلام وفعله، فأنوار المجتهدين كلهم من النبي ﷺ ولم جعلهم كالسرج والنبي ﷺ أيضا سراج كان للمجتهد أن يستنير بمن أراد منهم ويأخذ النور ممن اختار، وليس كذلك فإن مع نص النبي ﷺ لا يعمل بقول الصحابي فيؤخذ من النبي النور ولا يؤخذ من الصحابي فلم يجعله سراجًا.
قلت: وأصح هذه المذاهب ما دل عليه ظاهر الحديث أن أقوال الصحابة وأفعالهم حجة فيما لم يرد بخلافه كتاب ولا سنة كما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله، وكما روى الإمام الباقر عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به لا يسعكم تركها إلى غيره، وما لم تجدوه في كتاب الله وكانت مني سنة فالعمل بها لا يسعكم تركها إلى غيرها، وما لم تؤتوا به في كتاب الله ولم تكن في سنة فإلى أصحابي فبأي قول أصحابي أخذتم اهتديتم، إنما مثل أصحابي مثل النجوم من أخذ بنجم منها اهتدى». فلفظ الحديث من طريقه دال على ما ذهب إليه الإمام الشافعي، والصحيح أن اختلاف الصحابة خطأ وصواب والحق لا يتعدد، ولكن المأثم فيه مرفوع كما قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ويدل هذا الحديث دلالة النص على أنهم ثقات أثبات مؤتمنون في كل ما رووه عن رسول الله ﷺ. وبما أن خطاب النبي ﷺ كان للصحابة أن يقتدوا بالصحابة استنبط منه تقليد العامي المجتهد أيضًا، وأنه لو اقتدى بعالم من علماء الأمة المجتهدين لاهتدى. وبما أن الصحابة اجتهدوا وقاسوا فمن اقتداهم في القياس على النص والاجتهاد اهتدى. وقد علمت أن هذا الحديث بجميع معانيه لطمة قوية على وجه الظاهرية، فلذلك ترى فيهم شدة وقسوة عند ذكر هذا الحديث.
والله أعلم بالصواب وعلمه أتم وأحكم.
وكتبه صاحب القلم والله أعلم.
حررت بتأريخ 16/2/1437من الهجرة