الأصالة والحداثة، ودورهما في تقدم الشعوب وتخلفهم
هذا المقال حصیلة مجهودی المتواضع الذی حاولت من خلاله أن أعالج فیه موضوع الأصالة والحداثة و أسلّط الضوء علیهما و أدرس مدی تعلقهما بواقع الأمر و دورهما فی تقدم الشعوب و تخلفهم بعد أن رأیت فی الصحف والجرائد والأوساط الإعلامیة بعض المغالطات والمبالغات والتشویهات ضدّ الإسلام و تاریخه و تراثه.
لیس معنی الحداثة، إقامة حرب ضروس علی الماضی بكل معطیاته و بكل ما فیه من المآثر والأمجاد واقتلاع الجذور منه كما یزعم الكثیرون ممن یدعون التنور والحداثة ویمشون تحت لواء التجديد وإعادة صیاغة الحیاة كما یشاؤون بغیة التقدم وأمنیة التفوّق. و علی هذا تجد الصراع بین الأصالة والحداثة علی قدم و ساق، و الذین یدعون الحداثة والتجدید و یوسّعون دائرتها و یرفعون من شأنها أكثر مما یلیق بها و كأنهم نصبوها كتمثال یعبد، علی أنّي أراهم غفاة یتحلون بالكوابیس و یسعون وراء سراب خادع و یسیرون فی مسار تثار حوله الشكوك و الشبهات، قد رسمتها أمامهم الأجندة الإعلامية الغربیة المشبوهة المسمومة. ونواة فكرتهم الفائلة أنهم یرون حیاة الحداثة و زهرتها فی خراب الأصالة و دمارها، إذ یحسبونها العائق الأكبر دون الإبداع المحمود والتقدم المرموق، و یبحثون بزعمهم عن فسحة لتجربة جديدة وفرصة لفتح باب مغلق، و یرون ذلك من حقهم المحتوم و رسالة العصر التی حقیق علی أن تُحقَّق، و لنیل ذلك ملؤوا الأرض صیاحا و ضجیجا، ونسوا ماضیهم و تراثهم الزاخر حتی لم یعد یعدل عندهم قلامة ظفر فی جنب نشوتهم إلی التقدّم المزعوم.
فما كان منهم إلا أن انتهكوا حرمة الأصالة تحت باب الحداثة و رأوا أن الأصالة لیست بمعنی العودة إلی الماضي بل هي محصولة الحداثة و من صنع المستقبل. ومن ثَمَّ شنّوا حربا شعواء علی كل من ینتمي إلی الأصالة والكلاسیكیة و یلزمون منهم بأنهم رجعیون تقلیدیون لا یفتحون منافذ عقولهم لتصلهم الأفكار الجدیدة و الإیديولوجیات الحدیثة و لا یهبّون لیجربوا الحیاة القشیبة المزخرفة. والفخ الخطیر الذی وقع فیه الحداثیون هو اعتقادهم أن الحداثة هی الانسلاخ الكامل من الماضی والكفر بالأصول السابقة و التحرر الكامل من كافة القیودات، إنهم یخوضون معركة زعزعة النموذج.
وهذا الكلام يحمل شحنة من التمرد و مؤامرة تحاك لسحق هويتنا الثقافية، وإفساد ذوق الجماهير، وتشويه تراثنا و ما یریدون بذلك إلا العبث بالدین والاعتداء علیه، و لهم لهاث مسعور و جهد دؤوب لتأصیل القیم الغربیة المتحلّلة و الإباحیة و بئس ما یفعلون، وهذا مما يدعو للدهشة وقد باعوا أنفسهم وهویتهم وتراثهم وأصالتهم بثمن بخس نكد. قال أحد المعاصرین : «خير للإنسان أن يبني كوخاً بسيطاً من ذاته الأصيلة، من أن يقيم صرحاً شاهقاً من ذاته المقتبسة.»
غیر أن الأصالة هی الحجر الأساس لكل تقدم و نجاح فی شتی أصعدة الحیاة. والمؤمن إذا خلا من رصید أصیل وخلفیة ماجدة وطیدة فلا یتوقع منه أن یكسر أغلال الرجعیة و یتخلّص من نیر التبعیة والاستیراد الدائم للموادّ و أن یقوم بأعمال مصیریّة لیصنع لنفسه و لأبناء جلدته مستقبلا زاهرا و حیاة كریمة.
إن الأصالة و الحداثة فی قاموس الإسلام، مصطلحان متممان لبعضهما بحیث لا ینفكان، فقبول الحداثة لا یتعارض مع مبدأ التمسك بالأصول، من الممكن الجمع بین الأصالة - بمعنی الإسلام والتراث الإسلامی- والحداثة والتجدید و مزج أطراف الدین بالحیاة المتطوّرة، وإذا تصفّحنا التاریخ رأیناه خیر شاهد علی ما قلنا، إذ حينما كان المسلمون یفتحون العالم و یبدعون الآلات الحربیة النادرة فی نوعها و یقومون بإنجازات ضخمة علی مختلف الأصعدة العلمية، و تیسرت علیهم المذاهب وأُنجحت لهم المساعی و المطالب، لم یكن للأروبیین إلا كلا، و لا بلغ المسلمون فی قدیم الزمان من العلوم مبلغا لا یكاد یُلحق و لا یطمع أحد فی دركه. أصبحوا متبوعوا الرأی، مسموعوا القول وموطَّؤوا العَقِب، ولكن لم یدم حالهم علی وتیرة واحدة ووقعوا فی مهواة من الغلط، و تغیرت الظروف حین غيّر المسلمون ما بأنفسهم و ضعفوا فی أعمالهم و تقاعسوا فی مهامّهم.
أعود فأردد بأن المسلم یلیق به أن ینتشل الحكمة أینما وجدها و من أی شخص صدرت ما دام یرید المعالي و التحلق فی سماء المجد والرقی فی كافة مجالات الحیاة ، و أن یكون بصیرا بأخذ الحكمة من كل موضع، ولو خبأته الأسد بین أنیابها، و یلیق به أن تخامر هذه الفكرة قلبه من صباه وأن تزید علی مرّ الزمان و تكبر و تشتد و تتّسع، و كل ما في الأمر، أن النجاح مرهون بالعمل الجادّ والجهود الجبّارة.
من المعروف أن الإسلام يتضمن إلى جانب ثوابته الأصلية التي تتعلق بأصوله، مناهج تفتح كل الأبواب للتعامل مع كل المستجدات. ولابد من تنحیة كافة النزاعات الأهلیة والنزعات العرقیة والتیارات المخربة جانبا و السعي الحثیث لتكوین مستقبل مثالي منشود یكون المسلمون هم الرائدون و المبتكرون و تعجّ البلاد الإسلامیة بابتكارات جدیدة. وما ذلك علی الله بعزیز.