إطلالة على جمال القرآن الكريم
القرآن، وما أدراك ما القرآن! ما أروعه من كلام! وما أعذبه من بيان! إنه معجزة الله الكلامية التي تحدى بها فحول البلغاء وأساطين البيان، فعجزوا عن الإتيان بأقصر سورة فيه، وخروا لجماله وجلاله، وسجدوا لبيانه وروعته، فهو أكبر شاهد وأبين دليل على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أن المعجزة تتطلب ملائمتها لما برع فيه القوم، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى اختار القرآن معجزة للعرب الذين نبغوا بفنون الأدب، شعره ونثره وسجعه، وصرفوا جل عنايتهم إلى البديع والبيان، واشتهروا بالفصاحة والبلاغة والتمتع بجمال أسلوب الكلام، فجاء معجزة باهرة عظيمة اهتزت لأسلوبها العواطف، وتحركت له المشاعر، واقشعرت منه الجلود، وفاضت له الدموع، بل إنه لامس أوتار القلوب، وأخذ بمجامع النفوس، فثبث معجزة في معانيه ومبانيه، معجزة في مغيباته وتشريعه، معجزة في علومه ومعارفه، ومعجزة في تعبيره وبيانه، وهذا هو الإعجاز البياني الذي يُظهر جمال نظم الكلمات القرآنيّة، بحيث تُوصل هذه الكلمات المعنى بأروع تعبيرٍ وأدق وصف؛ حتى لو وضعت كلمةٌ عربيّةٌ أخرى لتؤدّي ذات المعنى في التركيب القرآني لم يوجد أفصح وأدقّ من اللفظ القرآنيّ المختار، وقد أدرك العرب القدامى دقّة الكلمات القرآنية في سياقها، وأقرّوا بفصاحته التي عجزوا عن بلوغها، حتى أنّ منهم من قال عند سماعه:
"والله إنّ لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه يعلو ولا يُعلى عليه، وما هو بقول بشر"،
وفي ذلك شهادةٌ من الذين عادوا النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ورفضوا دعوته على عظمة هذا الكتاب وتفوّقه في الفصاحة والبلاغة.
ولنضرب على ذلك مثلا في قوله تعالى :"تلك إذا قسمة ضيزى" فكلمة " ضيزى" - كما يقول الأديب النحوي الكبير والداعية الإسلامية العظيم الأستاذ الدكتور فاضل السامرائي في لمساته البيانية في نصوص من التنزيل- معناها جائرة ظالمة، ويقولون أصلها "ضُيزى" يقولون هو من باب إسم التفضيل، الأفعل والفعلى للمؤنث أكبر كبرى، أصغر صغرى، وهذه ضيزى، وزنها فُعلى في الأصل، لكن الضمة قلبت كسرة حتى تبقى صحيحة، الضاد مضمومة في الأصل تغيّرت إلى كسر "ضيزى" وهي كلمة عربية لأن ضاز معناه جار، وأضاف شارحا لهذه الكلمة أن عندنا فعلين : ضاز يضيز بمعنى "جار ونقص".....وضاز يضوز بمعنى "لاك الشيء ومضغه"، الدلالة متغير تماماً لكن هذا الاختيار مما يثير العجب، لأن ضيزى ليس فقط بمعنى جائرة، بل وهذه الكلمة تشير إلى أنكم تلوكون هذا الكلام بألسنتكم وتمضغونه في أفواهكم، وليس له قيمة فجاء بهذه الكلمة الغريبة لأنها قِسمة غريبة..(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى).
هذا غيض من فيض ذلك السحر البياني والجمال التعبيري والانسجام التام بين الكلمات ومدلولاتها الذي يمتاز به كلام الله المعجز الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولله در الشاعر أحمد شوقي حيث قال:
جـاءَ النبيـون بالآيـاتِ فـانصرمت
وجئتنــا بكتابٍ غــيرِ مُنصَـرمِ
آياتُــه كلّمــا طـالَ المـدَى جُـدُدٌ
يَــزِينُهنّ جــلالُ العِتــق والقِـدمِ
وهذه بضاعة مزجاة قد استطعت - بفضل الله - تقديمها بين أيديكم، سائلا المولى عزوجل أن ينفعني بها وبحلقات لاحقة تتبعها، وأن يفتح أعيننا وقلوبنا لرؤية جمال القرآن الكريم، ولا سيما في الشهر القادم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
يوسف عبدالرحمن الخليلي
خواطر بيانية/٢٤ شعبان ١٤٤١ ھ