من طلب العلم سهر الليالي وجاب البراري (الجزء الأوّل)

بسم الله الرحمن الرحيم من طلب العلم سهر الليالي وجاب البراري (الجزء الأوّل) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، أما بعد: أريد أن أقدم هذه السطورَ لطلاب العلم الشرعي، الذين أوصى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه إذا رأى طلاب العلم قال: "مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ". الشباب نعمة وأمانة، وهي سريعة الانقضاء، طوبى لمن قضاها في مرضاة الله وفي نيل مقصود وحصول على غاية، ومن المعلوم عند الحكماء وأهل البصيرة: لا بد لنيل مرغوب محبوب وبلوغ غاية وهدف، من تنازل عن مرغوب ومحبوب دونه، والعلم مرغوب سامٍ، وغايةٌ عالية، تُهجر لأجله المرغوبات الأخرى، وتُرفض في سبيله ملذات دونه. وقد قال أبو أحمد نصر بن أحمد الفقيهُ السمرقندي: "لا ينال هذا العلمَ إلا من عطّل دكانه، وخرّب بستانَه، وهجر إخوانه، ومات أقربُ أهله إليه فلم يشهد جنازته". يا طالب العلم، ويا فتى الإسلام!! اعلم، أن العلم يرفعك ويُخلِّد ذكراك، ويعلي شأنك، فهذا أحد كبار علماء المالكية وتلميذ الإمام مالك وقاضي القيروان: أسد بن الفرات فاتحِ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ: لمّا خرج لغزو صِقِلِّيَّةَ مع جيشه، فشيّعه جمع عظيم من أهل العلم ووجوه الناس وعامتهم، ولما رأى الأسد هذا الإكرام واجتماع الناس حوله، قام فيهم خطيبا، فحمد الله وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، والله يا معشر الناس ، ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط، وما رأيتُ ما ترون إلا بالأقلام - يعني بتحصيل العلم وتدوينه والاشتغال به -، فأجهدوا أنفسكم وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه ، وثابروا عليه واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة". لذا أردت أن أسوق هنا بعض الحكايات للسلف الصالح الذين آثروا العلم على كل لذة وفضلوه على كل مرغوب، وهجروا لأجله نومهم، وسهروا لياليهم، فلم تكن لهم راحة إلا في قراءة أو مذاكرة، ولم تكن لهم لذة إلا في طلب علم، وتحملوا في سبيله ما يحسبه أمثالنا أساطيرَ الأولين، بل ربما شك أحدنا وارتاب في صدق ما يقرأ ويسمع أحوال مكابدتهم ومجهوداتهم في طلب العلم. ولكني أقول: لا عجب!! أفلا ترى شباب زماننا يبيتون الليالي الطوال أمام شاشة الحاسوب والجوالات، ويسهرون على الشوارع سامرين. . . . . ، من دون تعب ولاكلل، ولا يشعرون بنصب، ولا يصيبهم ملل. كل حزب بما لديهم فرحون. فيا طالب العلم، استغلَّ هذه الحياة!! بل اغتنم كل لحظة من لحظاتك، وكل نفس من أنفاسك! وخذ من شبابك لهرمك، ومن صحتك لسقَمك، ومن حياتك لموتك، حتى إذا جاءتك الغرغرة، وأخذتك سكرة الموت، يلامس سمعَك قولُ قائل يبشر روحَك:"اخرجي أيّتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، واخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان"، وذاك؛ لما كنت خلفت من عمل صالح وعلم نافع، ينتفع به أناس كثر، فجُثَّتُك تُقبر، وعلمُك يحيى، ونفسُك ترحل، وذكرك يعيش، كذا شأن من جدّ في حياته، وقضاها في سبيل أن ينفع الأمة ويصلح شؤونهم ويهديهم من الظلمات إلى النور، وإن هذا لدأب الأنبياء قبل الجميع،! وأنتم يا معشر الطلاب أحق بميراثهم قبل غيركم، وأنتم أولى أن تقتفوا آثارهم من الآخرين فالعلماء ورثة الأنبياء. ولكن ... أخي العزيز، إن ذلك يتطلب منك جهدا متواصلا وعملا دائبا كؤودا. وأسجل هنا صورا من حياة الأسلاف الذين هجروا للعلم راحتهم، ورحلوا في سبيله الآفاق، وفارقوا الرفاق، وتحملوا المشاق؛ رجاء أن ينفع الله به أقواما، وتتجدد به عزائم الطلاب، وتنتعش فيهم رغبة الجد. وجزأت هذا المقال إلى جزأين: أولهما: يشتمل على أخبار العلماء وأهل العلم في هجر النوم والراحة، وسهر الليالي في طلب العلم، وثانيهما: يحتوي على حكايات أسفارهم وقطع المسافات الشاسعة في طلب العلم. وفي عنوان الموضوع تلميح وإشارة إلى هذين الجزأين. أسأل الله التوفيق والتيسير، وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.


فصل في أخبارهم في هجر النوم والراحة، وسهر الليالي في طلب العلم: • قَالَ فُضَيْلُ بْنُ غَزَوَانَ : كُنَّا نَجْلِسُ أَنَا وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَالْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الْعُكْلِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ ، وَالْقَعْقَاعُ بْنُ يَزِيدَ بِاللَّيْلِ نَتَذَاكَرُ الْفِقْهَ ، فَرُبَّمَا لَمْ نَقُمْ حَتَّى نَسْمَعَ النِّدَاءَ بِالْفَجْرِ. • وتذاكر محمد بن شهاب الزهري ليلة بعد العشاء حديثا، وهو جالس متوضئ حتى أصبح. قلت: كما أنه يستفاد منه شدة حرصهم على مذاكرة العلم، وغاية انهماكهم ورغبتهم في الاشتغال فيه، كذلك يستفاد أنهم كانوا يكثرون التتبع للحديث والمطالعة له، وبالأسف أن طلاب هذا الزمن، قلما يتصفحون كتب الحديث، واشتد البعد عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنه لوقفة إمعان، وموطن تدبر، فالحديث نور، وعلم جازم، ولا بد للطالب أن يکون له حزب من مطالعة الحديث النبوي الشريف، حتى يصبح كأنه يعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويستفيد من صحبته صلى الله عليه وسلم، رزقني الله وإياكم الشغف بالحديث. • قَالَ عَلِيُّ بنُ الحَسَنِ بنِ شَقِيْقٍ: قُمْتُ لأَخْرُجَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَذَاكَرَنِي عِنْد البَابِ بِحَدِيْثٍ - أَوْ ذَاكَرْتُهُ - فَمَا زِلْنَا نَتَذَاكَرُ حَتَّى جَاءَ المُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ. سبحان الله! ليلة شاتية، تُقضى بطولها عند باب المسجد، والمعلوم أن ليالي الشتاء أطول من ليالي الصيف، وأما نحن، فمن الصعب أن نسهر ليلة الشتاء بأسرها في مذاكرة علم ومطالعة حديث وإن كنا مع بطانية دافئة وكوب قهوة.!!! نسأل الله أن يرزقنا السير على سيرتهم، والله كانوا أحق بأن يصبحوا قادة الأمم وقضاة البلاد، وبهذا الجهد المتواصل حموا الإسلام، وبعلمهم هذا ملكوا القلوب والنفوس. • تذاكر وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل ليلة حديثا حديثا حتى أصبحا. • وكان أسد بن الفرات – المذكور في صدر الموضوع – يختلف إلى الإمام محمد بن الحسن الشيباني فيسمع منه، وقال أسد بن الفرات له يوما: الطلبة عندك كثير، والسماع منك نزر – أي قليل – فما حيلتي؟ فقال له محمد بن الحسن: اسمع العراقيين بالنهار، وجئني بالليل وحدك تبيت معي، فأسمعك. فكنت آتيه بالليل وأسمع منه، فكان إذا رآني نعست نضح وجهي بالماء. أقول: كان من أفضل المشاغل عندهم مذاكرة الحديث ليلا، والسهر في طلب العلم، ولا شك أن أيامهم كذلك كانت تصرف وتقضى في الحديث، كما كانوا يبيتون لياليهم فيها،. . . فيا إخوتي الأعزاء! . . . ليحاسب كل واحد منا نفسه، هل يطيب لأحدنا الاشتغال في العلم بالنهار لهذه الغاية، حيث يقضي فيها ساعات طوال؟؟ وأين نحن من شغفهم البالغ وحبهم المفرط للعلم الإلهي: علم القرآن والسنة؟، وليقس أحدنا جهده بالنهار بجهدهم بالليل وليوازن بينهما، لاشك لترجحن جهودهم الجبارة.! أويحل لنا بعد هذا التكاسل والابتعاد أن نرجو السعادة والسيادة اللتين نالوهما، والمجد الذي بلغوه، والعزة التي رغمت لهم أنفها؟؟ كلا ثم كلا!!، وقد صدق القائل: لا تحسَب المجدَ تمرًا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرا • وهذا عالم من علماء الأندلس، عبد الملك الأندلسي: أحيى الليل كله، والكتب حوله، وهو عاكف ومُكب عليها، والشمعة بين يديه تقد – أي تشتعل – فلم يشعر بشيء حتى أصبح ودخل عليه تلميذه يوسف بن يحيى عند الغَلَس، فرآه كذلك، قد أحاطت به الكتب، فسأله: أوقد انسلخ الليل؟ فقال: نعم، فقام وصلى الصبح، ثم قال: "يا يوسف، ما صليت هذه الصلاة إلا بوضوء العشاء الآخرة". قلت: ما أشدَّ حرصَهم على طلب العلم!!، فظلام الليل لا يمنعهم من مطالعة، وقلة ضوء وضآلة نور لا تسدّانهم عن النظر في الكتب، وأين حالنا من حالهم؟، وأين الأضواء المنيرة والمصابيح اللمّاعة التي عندنا من شموعهم الضئيلة؟، فالأسباب ميسورة، والسبل ممهدة . . . ، ولكن انشغلنا عن المجد والسعادة، وهجرنا مسلك آبائنا الأولين، الذين كانوا رمز التقدم والعلو، والرقي والسمو، وكان حقا علينا أن نتباهى بهم ونتخذهم قدوة ونتأسى بأسوتهم. فالرجوع الرجوع يا معشر الشباب ، إلى منهج الأسلاف، منهج المجد والكرامة، منهج الجد في سبيل العلم!! • وهذا الإمام الحافط العلامة الحجة، أبو القاسم سليمان الطبراني، مسند الدنيا: سئل عن كثرة حديثه، فقال: "كنت أنام على البواري – أي الحصر – ثلاثين سنة!!" • ومن كبار علماء المالكية عبد الرحمن بن قاسم العُتقي المصري، تزوج بمصر بابنة عمّه، ثم همّ بالرحيل إلى المدينة المنورة؛ ليسمع من مالك إمام دار الهجرة، ولما أراد الانصراف - وكانت امرأته حاملا – خيّرها ؛ لما أنه قد عزم على طول بقاء عند مالك، فاختارت البقاء، فغادر مصر، وأتى المدينة المنورة ولازم مالكا سبعَ عشْرةَ سنةً، ما باع فيها ولا اشترى شيئا – يعني لم ينشغل بالتجارة قط خلال هذه المدة - ، وكان عند مالك يوما، إذ أقبلت عير مصر، ومِن بينهم شاب متلثم، يسأل الناس عن ابن القاسم، فلما أدركه، أكب عليه، وأقبل يقبل عينيه، يقول ابن القاسم: وجدت منه ريحا طيبة، فإذا هي رائحة الولد.!!!


وأختم هنا هذا الجزء، وسيليه جزء ثانٍ في حكايات أسفارهم وقطع المسافات الشاسعة في طلب العلم، أسأل الله التيسير وهو المستعان والميسر لكل عسير. ملحوظة: معظم حكايات هذا الموضوع مستقاة من كتاب الشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله: "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل"، وإنه لكتاب نافع ماتع، وفي بعضها رجعت إلى أصول أخرى ومصادر معتمدة.

شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025