منهوم العلم لا يشبع
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه،
أما بعد:
إن من أفضل المشاغل التي يشتغل بها المرء طلب العلم الشرعي السماوي ، ومن أسمى الغايات التي يسعى نحوها إنسان: الاشتغال بعلوم القرآن والحديث ، ولاشك أنهما أرفع العلوم قدرًا، وأجلها منزلةً ومقامًا و أعلاها شأنًا، وأقواها برهانًا، وأوسعها نطاقا وبيانًا.
وكان من أسلافنا علماءُ قضوا حياتهم كلَّها في هذه العلوم درسا وتدريسا وحفظا وتحفيظا وإلقاءً وإملاءً فترى أن أحدهم مكث ثلاثين سنة في مدرسته لم يخرج منها، حتى إذا تُوفي ولده، وصُلِّي عليه، شيَّع جنازته الى بوّابة المدرسة وقال لأصحابه: "ادفنوه"، فلم يخرج بنفسه، منعه اشتغالُه بالعلم عن الخروج من المدرسة.
ومما يحرِّض الطالبَ على الجهد والكد، ويشحذ همته، ويجدِّد عزائمه: مذاكرةُ أحوال العلماء الماضين والأئمةِ السابقين الذين بذلوا في سبيل هذا العلم كلَّ غالٍ وثمين، وتحمّلوا من أجل الحصول عليه المشاقَّ والمتاعب التي قد تستغربها الأسماع، ويستعجب بها الألباب، فمنهم من يأكل السمك نيئًا خوفًا من فسادها ولا يطبخه؛ لأنه لا يجد من وقته فراغا من طلب العلم حتى يطهوَه .
ومنهم من يقطع المسافات الشاسعة ويعبر القفار النائية فيرحل على مركبه ويغادر بلده (ولا تقِس مراكبهم على مراكبنا المريحة في هذا الزمن من الطائرة والقطار والسيارات المتطوّرة، فكان معظم أسفارهم على البعير، والرحلة على البعير مع طوله عسيرٌ ومتعِبٌ، ولكن. . . لله دَرُّهم ، فقد كانوا يتلذّذون في هذه المتاعب التي تتعرّض لهم في السفر للحديث) فيأتي المدينة المنوَّرة، ولا يريد من كل هذا النصَب إلا سَماعَ حديث واحد، فقال أبو العالية: كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحن بالبصرة، فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم". وخرج عامر بن شراحيل الشعبيُّ من الكوفة إلى مكّةَ في ثلاثة أحاديث ذُكرتْ له، فقال : "لَعلّي ألقى رجلاً لقي النبيّ صلى الله عليه وسلّم" . ومنهم من يصبر على الجوع أياما زهدًا وإعراضًا عن كل ما يشغلك عن العلم الذي أصبح لديه ألذَّ وأغلى من كل شيء. . .
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعَتْنا يا جريرُ المجامع
حقًّا ، هكذا كان أسلافنا ، وهذه القصص ليست حكاياتٍ مفتَرَيَاتٍ أو أساطيرَ الوعاظين الكذابين الذين إذا مدحوا رجلا أوشكوا أن يجعلوه ملَكا رحيمًا معصوما كريما، كأنه لم يخطئ ولم يهُمَّ به ، وإن نقموا على أحد وضعوه حتى مثّلوه بشيطان رجيم وحدثوا فيه رواياتٍ تحط من شأنها حطًّا. وهي لا تصح أصلا. . . بل لا تقارب الصحة ولا السداد.
كلَّا، وإنما هذه الروايات والقصص وُضعت على ميزان النقد من علوم المصطلح، فما صحَّ منه أُخذ به وما لم يصحَّ منه أُضرِبَ عنه.
نورد هنا نبذة من مثل هذه القصص تشحيذًا لهمم الطالبين، وترغيبا لهم، والله المستعان.
أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه في "بَاب أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ" :
قال الإمام يحيى بنُ أبِي كَثِيرٍ: «لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ»
• هذا عطاء بن أبي رباح، كان من سادات التابعين، انتهت إليه رياسة الفتوى في مكة المكرمة. . . . فلما جاء سليمان بن عبد الملك بن مروان مكة المكرمة أمر مناديَه أن " لا يفتي في مكة إلا عطاء " .
وكيف طلب العلم؟
فقال ابن جريج : كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة !!
عشرون سنة. . . . . . إنه لأمَدٌ مديدٌ ودهرٌ طويلٌ . . .!!
فلما صبر على هذا أصبح إمامًا مرجعًا حتى كان أمير المؤمنين ينتظره حتى ينتهي من صلاته، ثم يقف في الطابور، فإذا جاء دوره تقدّم وسأله ما تعرّض له من المسائل.
• رأى رجل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وفي يده مَحْبَرَةٌ، فقال له: يا أبا عبد الله، أنت إمام المسلمين؟ (يعني مع أنك بلغت من العلم هذا المبلغ وتحمل معك المَحْبَرةَ إلى الآن)
فأجاب الإمام أحمد رحمه الله - وأنعم به من جواب - فقال:
مع المحبرة . . . إلى المقبرة
وكان يقول: " أنا أطلب العلم إلى أن أُدخل القبرَ ".
• وهذا أحد العلماء الرحّالين، الحافظ العلاّمة، أبو طاهر أحمد بن محمّد السِّلَفيّ، له أخبار عجيبة في طلب العلم والرحلة له، أسوق هنا جملة منها عسى أن ينفع الله بها طلاّب العلم. :
كان يدرس بالإسكندرية ، وفيها "منارة الإسكندرية" وهي من أعاجيب الدنيا السبعة، ومكث هناك ستين سنة. . . . وكان يقول: "لم أر هذه المنارة إلا من هذه الطاقة" يعني نافذة حجرته في المدرسة.
وقيل: أنه لم يخرج من مدرسته إلا مرةً واحدة ، وقد استوطن الإسكندرية 65 سنة ، وبقي فيها إلى أن مات.
تأمّل. . . أيها الأخ الكريم ! رجل يقضي حياته مع الكتب، ولا يهمُّه من الدنيا شيءٌ إلا طلب العلم، وبعد مثل هذا الجهد والتفاني في العلم يُرزق المرءُ العلم الذي لا يعطي أحدًا حتى يعطيه كُلَّه. . .
فهذا السِّلَفيُّ شُدّت إليه الرِّحال، وضُربت إليه أكباد الإبل، وكان مقصد الطالبين، ومحجّة العلماء العارفين.
ولم يكن في آخر عمره في عصره مثلُه،
قال الحافظ الذهبي:
"لا أعلم أحدا في الدنيا حدّث نيّفًا وثمانين سنةً سوى الحافظ السِّلفي" .
• قال التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" في ترجمة إمام الحرمين : الإمام أبي المعالي عبد الملك الجويني (وكل كلامه جدير بالذكر، وحري بالنقل، ولكن الإطالة لا يتحملها هذا المقام فإليك بعض الاقتطافات ، وفيها عبر وعظات، ونصح وإرشاد): وكان إمام الحرمين يقول: "أنا لا أنام ولا آكل عادة، وإنما أنام إذا غلبني النوم ، ليلا كان أو نهارًا، وآكل الطعام إذا اشتهيتُ الطعامَ أيّ وقت كان". وكان لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أيّ نوعٍ كان. وكان أبو الحسن المجاشعي يقول: "ما رأيت عاشقًا للعلم مثل هذا الإمام ، فإنه يطلب العلم للعلم". وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.