من طلب العلم سهر الليالي وجاب البراري (الجزء الثاني)

بسم الله الرحمن الرحيم من طلب العلم سهر الليالي وجاب البراري (الجزء الثاني) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فهذه الحلقة الثانية من الموضوع " من طلب العلم . . . "، سأذكر فيها بإذن الله صورا من رحلات الطلاب والعلماء في سبيل طلب العلم وسَماع الحديث، حيث فارقوا بلادهم وغادروا أوطانهم وهجروا ديارهم، وقاسَوا في أسفارهم ما قاسَوا من الأهوال، وعانوا المشاق الهائلة في الحل والترحال، من تحمل الجوع والخوف في الليل البهيم، ما يستحق أن يوصف بالعذاب الأليم؛ لأن رحلاتِهم تزداد هَوْلا ومشقّةً، أضعافا من رحلاتنا المرتاحة في هذا العصر المتطوِّر، فكانوا يرتحلون على الجمال والبغال، ومعهم نَزْر من الزاد الذي تحمله الراكبة، ويقطع أحدهم الفلوات النائية والصحاري القاصية والغابات الموحشة، يخاطر بنفسه لو تعرض له سبع وحشي، ويخاطر بماله لو فاجأه لص ماكر، فهو ليس على مأمن من نفسه وماله، ولكنه يسافر، حتى يتعلم حديث رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذاك عنده أغلى من كل ما تمتلكه يداه!! وإليك صورا مقتطفة من حياة هؤلاء الأمجاد الكرام:
• عن جَابِرِ بْن عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ: جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي، وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثًا بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِصَاصِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ، أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ـ أَوْ قَالَ: الْعِبَادُ ـ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا» قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: «لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ» قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ» . • قال عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: أَنَا أَلْزَمُكَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْكَ إِلَّا ثَلَاثِينَ حَدِيثًا! قَالَ: «وَتَسْتَقِلُّ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ؟‍، لَقَدْ سَارَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مِصْرَ، وَاشْتَرَى رَاحِلَةً وَرَكِبَهَا حَتَّى سَأَلَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ عَنْ حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَانْصَرَفَ، وَأَنْتَ تَسْتَقِلُّ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ؟؟» . • قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: «إِنْ كُنْتُ لَأَسِيرُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ». • وفي صحيح البخاري أن الشعبيَّ حدث صالحَ بنَ صالح الهمدانيَّ هذا الحديث: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ، فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ أَدَّى حَقَّ مَوَالِيهِ وَحَقَّ رَبِّهِ فَلَهُ أَجْرَانِ»، ثم قال له: «خُذْهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، قَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى المَدِينَةِ». • وهذه قصة رحلة شعبة بن الحجاج بن الورد أمير المؤمنين في الحديث، يحكيها بنفسه، وقد جرَّه إلى حكايتها أنه سمع نصر بن حماد الورّاق يروي حديثا ـ سأورده في نهاية القصة ـ ويسقط فيه راويا، فأخذه الغضب وامتلأ حنَقًا على نصرٍ حتى رفع يده فلطمه، فتنحى نصر ناحية، وجعل يبكي، فقيل لشعبة: أسأتَ إليه. فقال شعبة: «أَمَا تَسْمَعُ مَا يُحَدِّثُ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَنَا لمَّا سمِعْتُ الحديثَ مِنْ أَبِيْ إسْحَاق، قُلْتُ لَه: أَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَطَاءٍ مِنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ؟ قَالَ: لَا، وَغَضِبَ. وَكَانَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ حَاضِرًا، فَقَالَ لِي مِسْعَرٌ: أَغْضَبْتَ الشَّيْخَ. (أراد شعبة أن يتثبت من اتصال السند، وكان شديد التحري لصحة الحديث وثقة الرواة واتصال السند، وهذا التحري الزائد البالغ ربما يسبب التضايق على المحدث فيغضب، ولكن شعبة – رحمه الله – لم يكن ليدع تدقيقه لغضب مغضب وحنق حانق، جزاه الله عن علوم الحديث وطلابها خير الجزاء.) فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟ لَيُصَحِّحَنَّ لِي هَذَا الْحَدِيثَ أَوْ لَأُسْقِطَنَّ حَدِيثَهُ. فَقَالَ مِسْعَرٌ: عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ بِمَكَّةَ. فَرَحَلْتُ إِلَيْهِ، لَمْ أُرِدِ الْحَجَّ، إِنَّمَا أَرَدْتُ الْحَدِيثَ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَطَاءٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِيه سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ، فإن أحبَبْتَ لِقاءَه فَأْتِ المدينَةَ المُنَوَّرَةَ. قَالَ شُعْبَةُ: فَدَخَلْتُ الْمَدِينَةَ ، فَلَقِيتُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: الْحَدِيثُ مِنْ عِنْدِكُمْ، حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ، فَقُلْتُ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا الْحَدِيثُ؟ بَيْنَا هُوَ كُوفِيٌّ صَارَ مَكِّيًّا، صَارَ مَدَنِيًّا، صَارَ بَصْرِيًّا!!. (لما أن شعبة أيضا من البصرة، وزياد بن مخراق أيضا بصري؛ قال سعد: الحديث من عندكم، والحديث إن تناقله أهل بلدة واحدة، كان أقرب إلى الصحة؛ لما يقل فيه احتمال الغلط والخطأ، ثم ما تناقله أهل بلدتين يتنازل عن الدرجة الأولى، وأما هذا الحديث فيرويه أهل ثلاث بلاد متنائية، فذاك لم يُعجب شعبةَ، ولكن لم يلق عصا الترحال حتى توصل إلى النتيجة النهائية، وأدرك كنه الحديث ومخرجه، فلله دره، وعلى الله أجره، وهو لا يضيع أجر المحسنين) قَالَ شُعْبَةُ: فَدَخَلْتُ الْبَصْرَةَ ، فَلَقِيتُ زِيَادَ بْنَ مِخْرَاقٍ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابَتِكَ. (أي: لا يصلح لك، ومثلُك لا يصحِّحُه، كما أسلفتُ أن لشعبة تحرّيًا زائدًا، وتدقيقًا مفرطًا في تحقيق السند والرواة، ولعل زيادا عرف ذلك منه، فقال له ما قال). قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: لَا تُرِيدُهُ؟ قُلْتُ أُرِيدُهُ. فقَالَ زِيَادٌ: حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. . . قَالَ شُعْبَةُ: فَلَمَّا ذَكَرَ لِي شَهْرًا، قُلْتُ: دَمَّرَ عَلَيَّ هَذَا الْحَدِيثَ، لَوْ صَحَّ لِي هَذَا الْحَدِيثُ، كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ مَالِي وَمِنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا». انتهت القصة منقولة من المحدث الفاصل بين الراوي والواعي مع زيادة يسيرة في ثنايا القصة، وها أنا أورد الحديث كما أخرجه أبو محمد الحسن الرامهرمزي الفارسي في المحدث الفاصل بسنده، وله شاهد في سُنَنَيِ النَّسائي والدارِمي، قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَالْحُسَيْنُ بْنُ بَهَانَ قَالَا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ غَالِبٍ الْعَطَّارُ، نَا نَصْرُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: كُنَّا بِبَابِ شُعْبَةَ نَتَذَاكَرُ الْحَدِيثَ، فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كُنَّا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَنَاوَبُ رِعَايَةَ الْإِبِلِ، فَرُحْتُ ذَاتَ يَوْمٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوضُوءَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ»، قَالَ: فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ قُلْتُ: بَخٍ بَخٍ، قَالَ: فَجَذَبَنِي رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَامِرٍ، الَّذِي قَالَ قَبْلَ أَنْ تَجِيْءَ أَحْسَنُ. قُلْتُ: مَا قَالَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ: قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ مِنَ الْجَنَّةِ، مِنْ أَيِّهَا شَاءَ دَخَلَ». قلت: رحل من البصرة إلى مكة، ثم من مكة إلى المدينة المنورة، ثم رجع منها إلى البصرة. رحلة ثلاث بلاد متباعدة، وقطع المسافات الطوال، وجوب البراري الشاسعة على مراكب مُتعبة في طلب حديث واحد، كل ذلك كان معتادا عندهم هينا لديهم لأجل العلم، وبعد هذا الجهد الجهيد أصبح العلم عندهم غاليا، بل أغلى من كل شيء، فكان أحدهم إذا سمع من الحديث ما لا يصح لديه، ولا يثبت عنده، لم يتمالك نفسه، ويثور عندئذ ثائره، ويفور فائره، ويقوم لحفظ السنة كجندي مسلح مدجج وقف على ثغر العدو، وهؤلاء ـ والله ـ كانوا رجالا حمى الله بهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأعز بهم دينه، واستخدمهم لحفاظة الإسلام ونشره ونقله إلى الأجيال القادمة مُسلَّما محفوظا مصونا من شرور الأشرار وغوائل الأوباش ومكايد الأعداء، وقاموا بهذه المسؤولية أحسن قيام، وأدوها أتم أداء، فجزاهم الله عن المسلمين وعن الإسلام خير جزاء، وأكرمهم في جناته بما يليق بشأنه وكبريائه جل وعلا. ثم الحديث الذي أخذه أحدهم بهذا الجهد وبهذه المشقة، لم يكن سريع النسيان له، ولم يكن يهجر العمل به طوال حياته؛ لأنه قد بذل لأجله ما بذل، وعانى في سبيله ما عانى، فلا يهون العلم عليه كما يهون علينا؛ لأننا تعلمناها في غرف باردة تحت مراوح متحركة، في المباني المشيدة، وحولنا خدام يعدون لنا الوجبات الشهية وينظفون ساحات مدرستنا، وعندنا الماء البارد العذب الزلال، وعدد كبير من الكتب والذخائر العلمية التي كان يتمنى الخطيب البغدادي و الحافظ ابن حجر وأمثالهما أن يراها فلم يُوفَّقوا، وأما نحن: فسيقت هذه الخزائن في أجمل طبعاتها وأبهى أغلفتها إلى ديارنا وأفنيتنا ومدارسنا، وأصبحت على مسافة خطوات معدودة من مَقَرِّنا، وصارت سهلة التناول وقريبة المنال، ولكننا انشغلنا عنها واستخففنا بها، وأشغلتنا الأجهزة المتطورة عن ميراث آبائنا الكرام وأسلافنا العظام، والسبب: أننا لم نقاسِ أي ضيق، ولم نُعانِ أي تعَبٍ لأجل هذا الكنز الثمين، ولم نبذُل في سبيله من المال والنفس ما يستحق الذكر تجاه مجهوداتهم الهائلة!! أخي العزيز: لا شك أن المرافق من المطعوم والمشروب والملبوس وغيره لطالب العلم ممدوحة ومطلوبة، لا كراهة فيها، ولكن الانشغال من أجله عن العلم الذي هو الهدف الحقيقي والغاية العليا والمقصد الأسمى ممّا لا يُحمد عقباه، فالحذرَ الحذرَ، يا طالب العلم! إن حياتك بيدك وأنت أمين عليها، فقم بهدفك خير قيام، والله يتولاك. • وهذه آخر حكاية أسوقها هنا، وهي لزيد بن الحباب: أخْرَجَهَا الخَطِيبُ فِي الرِّحلةِ بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ اللَّخْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرٍو: عَنْ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَرْقٌ بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أُكْلَةُ السَّحَرِ». (وكان زيد حاضرا في مجلس سفيان الثوري بالكوفة)، فقَالَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ: فَلَمَّا ذَهَبْتُ لِأَقُومَ مِنْ مَجْلِسِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ لِي رَجُلٌ: أَنَا خَلَّفْتُ أُسَامَةَ حَيًّا بِالْمَدِينَةِ، قَالَ زَيْدٌ: فَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي، وَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ أُسَامَةَ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنِيهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ عَنْكَ . . إلخ، قَالَ أُسَامَةُ: نَعَمْ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ(عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ)، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرٍو،. . إلخ. قَالَ زَيْدٌ: فَلَمَّا ذَهَبْتُ لِأَقُومَ مِنْ مَجْلِسِ أُسَامَةَ ـ في المدينة المنورة ـ ، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا خَلَّفْتُ مُوسَى بْنَ عَلِيٍّ حَيًّا بِمِصْرَ. فَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي، وَأَتَيْتُ مِصْرَ، فَجَلَسْتُ بِبَابِهِ فَخَرَجَ إِلَيَّ شَيْخٌ رَاكِبٌ عَلَى فَرَسٍ، قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، حَدِيثٌ حَدَّثَنِيهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْكَ عَنْ أَبِيكِ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرٍو ،. . إلخ. فَقَالَ: نَعَمْ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرٍو عَنْ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَرْقٌ بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أُكْلَةُ السَّحَرِ». قلت: هذه رحلة زيد بن الحباب من الكوفة إلى المدينة المنورة، ومن المدينة إلى مصر في الحديث الواحد!! فلم يبالغ أحدُهم لما قال: «إِنْ كُنْتُ لَأَسِيرُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ». فكانوا فعلا يرحلون الآفاق في طلب حديث واحد، بل في طلب حرف واحد (كما ترى شواهده في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وفي غيره). وهذه نبذه يسيرة جدا من مكارم أسلافنا، ومن شاء الاستزادة فليراجع إلى كتب التراجم والطبقات، فسيرى عجبا عُجابا وأخبارا مدهشة. وعند ختام هذا المقال أسجل أسماء بعض الكتب، ليتدرج بها الطالب المبتدئ إلى الكتب الأخرى النافعة، وأسأل الله أن يتقبله مني، وينفغ به الطلاب، ويجعله ذخرا لي ويثقل به ميزاني يوم القيامة، وأن يحشرني في زمرة هؤلاء الصلحاء الأتقياء، فهو ولي التوفيق والتسديد، وبإجابة دعواتنا جدير. وإليك أسماءها: 1. ترتيب المدارك للقاضي عياض. 2. سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي. 3. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي. 4. الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي. 5. المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي. وغيرها كثير وكثير. ولم أذكر ههنا كتب المتأخرين وإن كانت سهلة بالنسبة إلى كتب المتقدمين؛ لتجرده عن الأسانيد ولغير ذلك من الأسباب؛ لأن كتب المتقدمين لامحالة أكثر نفعا وأغرز علما وأفصح بيانا بكثير، وإن كان الطالب يستصعبه في أول أمره، ولكنه لو تعوّد عليها لوجد فيها ما لا يجد في كتب المتأخرين، ولعرف أنه لا غنى له عن هذه الكتب القيمة. ثم لهذه الكتب أثر خفي دقيق، يسري إلى القلب من غير شعور وإحساس؛ فلصاحب التصنيف أثر في المصنَّف، لتقواه ولورعه ولخشيته، ولما عنده من الزهد والإنابة، يدب في نفس القارئ من غير أن يشعر، ولا شك أن هؤلاء المتقدمين كانوا أعلى درجة وأوفر حظا من هذه الصفات والخصائل ممن بعدهم. وأذكر هنا ما نَصَحَنا غيرُ واحد من أساتذتنا: «لا تتصفحوا إلا كتب أهل التقوى، واجتنبوا مصنَّفات أهل الفجور كل الاجتناب». وأسأل الله القبول والتوفيق لما يحب ويرضى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025