العصبية في الإسلام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ﴾.

وسئل رسول الله ﷺ عن العصبية، فقال: «أن تعين قومك على الظلم».

وبعد؛ فقد انتشر وباء ساحق في البلدان، انتشار السموم في الأبدان، وعادت الجاهلية الأولى مع شرها وفسادها، ليدمّر الأمة الإسلامية، ويشتت شملها، ويمزق جموعها التي لم تزل مجتمعة حتى الآن..! انتشر حتى تمكن من رجالها، وعمّ حتى لم ينج من آثارها صناديد الرجال وأفذاذهم، إلا من رحم الله، كالسيل الجارف المدمر  إذا اندفع في مسيله فانساب في الوبر والمدر، والقرى والمدن، ليعمّها بالدمار، أو كالرياح الهوج ذوات عواصف لا يعترض لها شيء إلا تجتثه، وتجعله هباءً منثورا.. وما هو هذا البلاء الساحق؟ والداء العضال؟ والطامة الكبرى؟؟ إنه العصبية..!

فمن لي بإحضار سبعين من مائة رجل لم تمسهم ريح هذه العاصفة ونجوا من هذا السيل الدفّاع..؟ هيهات! هيهات!!

علينا أن ننبذ العصبية، ونطرح النخوة القومية خلف ظهورنا، ونمضي سوياًّ ، فما تخلفنا حين تخلفنا عن الكفار، إلا بسبب اختلافنا فيما بيننا على صيحات الجهَلة، من أبناء أمتنا الفاسدين، فافترقنا بعد أن كنا مجتمعين كأصابع اليد المجتمعة، وتشتت شملنا، فلم يعد يهابنا الكفر بعد كان يفزع على كل صوت للإسلام كالقط المذعور، فبدأنا نختلف باسم الوطن، واللسان، واللون، ونسينا أننا لم نعتل كرسيَّ الخلافة في الأرض إلا باجتماعنا باسم التقوى والدين والإسلام، لا باسم اللون والقوم، فبدأنا في النزول من العليا إلى الحضيض، إلى أن اشتدّ ساعد الكفر، ولانت قوانا، وخارت طاقتنا، فهجم علينا هجمة نكراء، وشدّ علينا القنابل، إنا نسينا هديَ الرسول ﷺ والقرآن، وطرحنا حبلهما المتين، فنُسينا، وخُذِلنا، ووَهننا.

فيا أمتي! لا سبيل إلى السلام إلا الاجتماع تحت لواء أخوة الإسلام..

اقذقوا بالعصبية من بينكم، واقلعوا النخوة الجاهلية القائمة على الظلم والدمار من قلوبكم.

حتى متى أنتم في ظلام البغضاء؟! وإلى متى هذا الضجيج الممجّ.. وهذا الإيغال الشديد في الشحناء؟!

إلام الخلف بينكمُ إلاما             وهذي الضجةُ الكبرى علاما؟!

ألم يقل الرسول ﷺ: «يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم من آدم، وآدم من تراب».

أما نطق لسانه المبارك بهذا الحديث: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا فضل لأحمر على أسود إلا بالتقوى».

وأين نحن من قول الله عزوجل: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾.

وكيف بنا وقد قامت القيامة فيقول الله جل جلاله: «إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا: فلان  ابن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع نسبكم، أين المتقون؟ أين المتقون؟»

يقوم أحدنا اليوم فينادي باسم اللون، فتمتد صيحته حتى تشمل البلد، فيتهافت عليه الناس، ممن يشاكلونه، ويقوم آخر فيصيح صيحة أخرى باسم القوم، فيقبل عليه الناس، ممن يشاكلونه، فيبدؤون في نشر سموم الفساد، ثم ينبري الثالث، فيهتف باسم الدولة والحدود، فينظم إلىه الجمع الباقي لكي يساعدوا المفسدين في العدوان والفساد.

ويلتفت الرائي؛ فإذا رميم الجاهلية قد حيي بعد هموده، وإذا وطيس التعصب قد حمي بعد خموده، وإذا الناس انصرفوا من الأمن إلى الطعن، ومن الإخاء إلى البغضاء، ومن الوفاق إلى الشقاق.

إن الإسلام دين كل أسود وأحمر، بل هو لكل من يسكن على الأرض ويحمل جسما آدميا، ولم يكن يعسر على الله أن يخلق أبناء آدم كلهم من صنف واحد، لونا، وقوما، ونسبا، ولكن... لِم لَمْ يجعل الناس كلهم سواء؟ ولم شعّبهم فصاروا أقواما وقبائل؟ يتوى الله سبحانه الإجابةَ بنفسه قائلا: يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا،

 إنما شعّبهم الله تعالى للتعارف فيما بينهم فقط، أما أن نجعل وسيلة التميز وسيلة للاستعلاء في الأرض بغير حق؛ فذلك ما لا يرتضيه عقل سليم.

فإن من السفه البالغ أن تحسب غير المفخرة مفخرة، وتفتخر بها والناس من ورائك (الناس: الذين لم يسلبهم الله نعمة العقل) يضحكون متفرجين على المشاهد الحيوانية صادرة من إنسان!

وإلا فلماذا ينهش المسلم أخاه لا لشيء سوى أنه  ليس من قبيلته؛ بعد أن قال رسول الله ﷺ: ليس منا من دعا إلى العصبية، وليس منا من قاتل على العصبية، وليس منا من مات على العصبية. [أبو داؤد]

فالعصبية خصلة جاهلية، ولقد أنكرها الإسلام أشد إنكار، والرسول ﷺ اهتم بدفعها ومحو آثارها المتبقّية في قلوب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، حتى تطهّرت من أنجاس العصبية ورجسها.. وها نحن نشعر بوجودها، بل نراها عيانا قد ولدت من جديد فينا بشكل أكبر خطرا، وأوسع ضررا؛ فلقد وسعت هذه الفتنة في هذا الزمن الذي ازدحمت فيه عوامل العدوان والدمار، وما زالت تنتشر بسرعة اشتعال الشيب في الرأس.

ولقد ذكرنا رسول الله ﷺ بعلامات قرب الساعة، وبينها: «الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب» [رواه مسلم 2114].

فعلينا أن نجتهد كل الجهد؛ لكي نجتنب فتنة العصبية، مع السعي لنقتلع جذورها من قلوبنا، والناسِ كلهم؛ لكي ينمو جلينا الجديد بعيدا عن لوثة العصبية التي أحالت آلاف الحياة عذابا وجحيما. والله المستعان.

أسامة محمود

عضو إداري في شبكة المدارس الإسلامية، متخصص في الفقه الإسلامي، محب العربية والفن، طالب العلم
مجموع المواد : 95
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024