الإسلام والمسلمون في (أوكرانيا)
ما كُتب لأوكرانيا (Ukraine) بمثل ما كُتب لبعض شقيقاتها الأوربية أن تدخل في حظيرة الإسلام و تتنور بسنى الإيمان في صبح عهده عن طريق الجيوش الجرارة و رعيله الأول، فوصلت رسالة الإسلام إلى أوكرانيا- هذه ملكة شابة ساحرة في شرق أوربا- عن طريق ...
ما كُتب لأوكرانيا (Ukraine) بمثل ما كُتب لبعض شقيقاتها الأوربية أن تدخل في حظيرة الإسلام و تتنور بسنى الإيمان في صبح عهده عن طريق الجيوش الجرارة و رعيله الأول، فوصلت رسالة الإسلام إلى أوكرانيا- هذه ملكة شابة ساحرة في شرق أوربا- عن طريق التجار والرحالة المسلمين في النصف الأول من القرن العاشر، لكن -رغم ذلك- لا شكّ أن للمسلمين في أوكرانيا تاريخا رائعا عريقا، وهو تاريخ الشجاعة والبسالة، والحمية الدينية والنفسية السامية العفيفة من جانب المسلمين، كما هو تاريخ الظلم والاضطهاد، والجنون الجامح والعصبية الشوهاء من قبل معادي المسلمين.
كانت أوكرانيا في القرن العاشر الميلادي منغمسة في الظلمات، بعيدة كل البعد عن مراكز الإيمان و نور الشمس التي طلعت من أفق الجزيرة العربية واستضاءت بها قطعة كبيرة من آسيا و شمال إفريقيا، وكانت تحول بينها و بين هذا النور بحار شاسعة و بلدان كثيرة واسعة تُحيط بها من روسيا، و بولندا، و سلوفاكيا، و هانغاريا، و ملدافيا، و رومانيا، ثم إذا تناهى إليها الإسلام عن طريق التجار المخلصين لم تكن للإسلام فيها صولة- وهو أمر ليس بغريب- مثلما كانت له في الأندلس وغيرها من البلدان الأوربية التي سبقتها إلى الإسلام مباشرةً و جهارًا، وقد كان بجانبها يقوم أكبر عفريب العالم- الإمبراطورية الروسية- يُحكم القبضة على خناقها، و ينفذ عليها سلطانه، ولعل ذلك منع الإسلام فيها من انتشاره و حال دون تعزيز أمره، حتى ضاقت أوكرانيا بالإسلام أو احتَجَبَ أمرُه بين طياتها و تستَّرَ لئلا ينبثق ولا يخرج في ضياء النهار إلا بعد مدة مديدة تُرْبي على نحو سبعة قرون.
هذه هي مرحلة أولى للإسلام والمسلمين في أوكرانيا، ولكن معظم أخبار الإسلام و أحواله خلال هذه السبعة قرون الطويلة لم يظفر بتدوينها تاريخ العالم، إما لتخلف أوكرانيا بجميع بلدان أوربا خلال تلك العصور وانحطاطها المادي و إفلاسها في وسائل التدوين والإعلام، أو دُوِّنت و سُجّلت (ولعل هذا أرجح)، ولكن "العفريت" نالها بالخيانة، و فعل بها فعله، فضاعتْ و اضمحلّتْ للأبد. وهاهو الأمر الذي أثار شكوكا حول تواجد الإسلام والمسلمين على أرض أوكرانيا منذ القرون الطويلة، و عبَّدَ طريقا للوهم في التاريخ و في نفوس الناس بأن أوكرانيا لم تعرف الإسلام والمسلمين إلا منذ سنوات معدودة! فيحسن بنا أن نسلِّط على هذا الأمر ضوءا في السطور التاليه:
عندما وقعت أوكرانيا بلحمها و شحمها، وبكل جوارحها و أعضائها تحت سيطرة الإمبراطورية الروسية، تدشَّنت مرحلة جديدة في تاريخ البلاد، فقد مدّت الطاغية إلى الإسلام و المسلمين فيها- على اختلاف طبقاتهم و مشاربهم و مكاناتهم في المجتمع- يد الخيانة والإبادة، فجرّدت السيف في أعناق المسلمين، و قتّلتهم تقتيلًا أو نفتهم إلى غير رجعةٍ، وفي نهاية القرن التاسع عشر (عام 1890م) قامت تُغلق المدارس والمعاهد الدينية، و تُحوِّل المساجد لله ملاعب و مخازن، أو متاحف و قصورًا، و حَرّمت التوجه إلى مكة، و أداء فريضة الحجّ في رحابها، و أقامت رابطة باسم "رابطة ضد المسلمين" كانت ترمي إلى معاداة الإسلام و محاربة المسلمين. ولا تزال آثارٌ لكثير من المساجد في أوكرانيا تشهد وتحكي اليوم ذلك التاريخ الرهيب للزائرين.
ثم أوغلت الطاغية في التعصب والتشدّد في محاربة الإسلام والمسلمين، فهجم على معالم الحضارة الإسلامية العريقة، و مَحَا كل ما له علاقة بها، فاستولتْ على المكتبات الإسلامية الغنية العامرة و حرقت جميع كتبها و مخطوطاتها، وأحالتْ تلك الثروات الغالية التي بذلت في استجماعها جهودٌ و حياةٌ، و دماءٌ و دموعٌ، أحالتْها رمادًا تَذروه الرياح، ثم تجاوزت الأحياء إلى الأموات، و عرضت لِما لَمْ يعرض له أخسّ البهائم و أضرى الوحوش في تاريخ العالم، فنبشت قبورَ المسلمين و عبثتْ بجثثهم، و سرقت منها حجارة تستخدمها في البناء.
لكن في هذه الأعاصير والعواصف الهوجاء كانت زمرة من المسلمين الأتقياء يحتفظون بإيمانهم و عقيدتهم، و يفرّون بدينهم عن أعين الطواغيت الجبابرة إلى جبال و غارات، و آبار و غابات، و ينتشرون في البلاد كما تنتشر الكواكب في أجواز الفضاء الملبد بالغيوم، كانوا يجتمعون في أماكن خاصّة، يُقيمون الصلاة مع الجماعة، و يقرؤون القرآن، و يدرُسُون و يدرِّسُون، ويحملون رسالة السماء لأبناء الأرض، حتى هدأت العواصف شيئًا، و بدأت المياه تجري في مجاريها، وأخذ البقية الباقية من المسلمين يتنفسون الصعداء، وذلك بين فترة من منتصف القرن التاسع عشر إلى أوائل العشرين، ولكن ما لبثوا كثيرًا أن أطبق عليهم ليلٌ بهيمٌ، و جاءت للإسلام مرحلة جديدةٌ عصيبةٌ.
في آخر 1917 للميلاد حدثت في عقر روسيا أكبر ثورة اشتراكية في تاريخ العالم، وكانت هي في الحقيقة ثورة على الأديان و لا سيّما على الإسلام، وخروجًا على المسلمين، و نعيًا على الشريعة الإسلامية و مبادئها و نظمها السياسية والاجتماعية، و تستهدف القضاء على كل معالم الحضارة الإسلامية في أوكرانيا، والبقية الباقية من نشاطها و حياتها، فقد قامت السلطة تقبض على أعلام المسلمين و ألقت بهم في غيابة السجن، وعذّبتهم تعذيبًا تتقطّع له الحيازيم، وفي أواسط القرن العشرين قامت بتغيير اللغة و أسلوب الكتابة، وحرّمت استخدام الحروف العربية فيها، و قامت بالبحث و التفتيش عن كل مسلم يعبد الله خفية عن أعين الناس، ثم زجَّتْ به إلى السجن أوحكمت عليه بالإعدام، و جمعت كل ما كان ينتشر في أماكن مختلفة من كتب إسلامية و تاريخية فحرقتْها و نفختْها رمادًا على متن الهواء. وهكذا تلاشى تاريخ الإسلام في أوكرانيا مع تلاشي تلك الكتب التي كانت تحمل في طياتها من روائع تاريخ المسلمين فيها، و بدأ العالم يتوهّم أن الإسلام غريب في أوكرانيا، و طفيليّ في حياة أبنائها.
هكذا كانت الحياة للمسلمين في أوكرانيا، ثم مالت شمس الشيوعية إلى مغربها، و سقط الاتحاد السوفيتيّ (Soviet Union) عام 1991 على أيدي المسلمين المجاهدين الأفغان، فنالت أوكرانيا استقلالها التي كانتْ لطالما تتمناها و تترقّبها، وجاء هذا الاستقلال بربيع نادر و بيقظة جديدة لمسلمي أوكرانيا كسائر أبنائها، وماسلكت السلطة الأوكرانية المستقلّة المنهج الخاطئ الذي سلكت السلطة الشيوعية في أيامها الأولى، فردّت على كل دين حقّه و مكانته، وعلى كل مواطن شرفه و تاريخه، و على كل مذهب حقوقه و حريته، وأعطت كلَّ ديانة حق استرجاع مبانيها و ممتلكات التي سلبها منها النظم الشيوعية الجامحة، وهكذا أصْحَتْ سماء أوكرانيا للإسلام، و سمحت لشمسه أن تتلمّع بأكثر ضوء و أبهى رواء. فحدث انقلاب مبارك في حياة المسلمين و تعدادهم، فازداد عدد المسلمين فيها كسيل العَرِم، و لا يزال المعتنقون في تزايد و استمرارٍ. وإن لم يعثر على أيّ مصدر موثوق أو دليل مقنع على عدد المسلمين في أوكرانيا، فإن إدارة دينية لمسلمي أوكرانيا تقول بأن لا يقل عدد المسلمين فيها من مليونَين، وعدد المساجد لا يقل من مئات، ولا يزال الكثير قيد البناء.
وفي أوكرانيا تعتبر المراكز الثقافية الإسلامية من أهم وسائل الدعوة و عوامل نشرها كما تعتبر في جميع بلدان أوربا، وذلك لما لا تكاد عاصمة أو مدينة مشهورة من مدن أوربا تخلو من مركز مثله، فقد تجلت لها فعالية بالغة و جدوى جمّة في السنوات الماضية، فلذلك قد وجدت على أرض أوكرانيا ثمانية مراكز ثقافية إسلامية في بلدان شتى، فإنها تحمل رسالة الإسلام إلى الأوكران، و تُساعدهم على التعرف بمبادئ الإيمان، و تفاهم معاني القرآن، و تهديهم إلى الجادة الإسلامية الرائعة، وقد أسهم مسلمو أوكرانيا في السياسة أيضًا، و أسهمتْ مساعيهم في توجيه البلاد مشاركة لا بأس بها.
لا شكّ أن هذه الظاهرة للمسلمين في أوكرانيا تَعدنا بمستقبل رائد فيها للإسلام، وإن عدد المسلمين الجدد فيها يزفّ بشرى سارة إلى كل داعية من دعاة المسلمين في العالم، وذلك كله جزاء على تلك الجهاد و ثمرة لتلك التضحية التي قدمها المسلمون الأوكران في قرونهم الأولى، الذين حافظوا على مصابيح إيمانهم- وهي أمانة ربهم- في ليال بهيمة مدلهمة، ولم يسمحوا لها أن تخمد في عواصف الشيوعية الهوجاء، بل احتفظوا بها تلك القرون الطويلة ثم أسلموها إلى الأجيال جاوؤا بعدهم لأن يحملوها، والذين اشتروا بحياة الدنيا خلودَ الآخرة، وبعذابِها جزاءَها، و وببؤسِها و شقائِها نعيمَها و سعادتَها، فجاء النصرُ والفتح، و جعل الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، فكيف لا نحسب أن أوكرانيا بجميع بلدانها و حدودها سوف تتحول يومًا من نصرانية إلى إسلامية، و تدخل من براثن الإلحاد إلى حظيرة الإيمان، جزى الله مسلمي أوكرانيا عن جميع المسلمين أحسن الجزاء.
بقلم: م. أ. المنان
جامعة خاركوف الوطنية للراديو إلكترونيك.
أوبلاست، أوكرانيا