حديث النفس ...

... كان الباب كما كان، لا شيءَ قد تغيَّر، حاول أن يمسِك بزمام قلبه، وجدَّ على التصبّر؛ لأن عليه ألا يستعجل؛ لأنه لا يُجدِي، وعليه ألا يستسرع؛ لأنه لا يفيد، فرجع القهقرى إلى الباب المفتوح؛ لكي لا يغلب على أمره.

كان وافقاً في بهوٍ واسعٍ، أمامه باب مغلَق وخلفه باب مفتوح، كان مواجهاً للباب المقفَل ومقابلاً للباب المكشوف، يحاوِل بكلِّ قلبٍ أن يحسّ بما يجري وراء الباب، ضاقَ عليه البهو على سعته، واحترَّ عليه المكان على برودته، فأدار وجهه إلى الباب المفتوح وخرجَ، خرج يمشي على غير وجهة، يسير حيال الحائط، وقلبه معلَّقٌ بالعرش، ولسانه ذاكرٌ لصاحبه، ورأسه يحاول ألا يفكِّر في شيء، انتهى الشوط الأول مع الحائط، فأسرع خُطاه إلى البهو مرة أخرى، إلى الباب المغلَق.

كان الباب كما كان، لا شيءَ قد تغيَّر، حاول أن يمسِك بزمام قلبه، وجدَّ على التصبّر؛ لأن عليه ألا يستعجل؛ لأنه لا يُجدِي، وعليه ألا يستسرع؛ لأنه لا يفيد، فرجع القهقرى إلى الباب المفتوح؛ لكي لا يغلب على أمره.

بدأ يسير مرة أخرى حيث تطأ به الأقدام، ويحاول جاهداً على أن ينثي قلبه في التفكير فيما وراء الباب المغلَق، فرفع بصره إلى السماء الفسيحة، لعلَّها تجذب قلبه، وحاول أن يحدِق في الشمس الواسعة، علَّها تلفِتُ نظره؛ فرأى السماء تنظر إليه بغبطة! ورأى الشمس تنظر إليه بسرور! فظنَّ أن الباب قد فُتِح، فعاد مرة أخرى إليه! ولكنه كما كان!!

يا الله! ما لهذا الباب الثابت على حاله كل هذا الوقت! لا يتغيّر! والدنيا كلها في تغيّر مستمر! أمسَك بيده المِقبَس وحاولَ أن يفتح، فسمع صوتاً يخاطبه قائلا: لا! لمّا يحن الوقتُ!

تعجَّب من جمال هذا الصوت، ونبَراته الواضحة، ونغَماته الأسيرة... فأراد أن يصل إلى مصدره، وإذا به يختفي فيجري صاحبنا وراءه، فوضع جسده للهواء، وتركَ رِجليه للرياح، وهو يعدو  خلف الصوت ... يعدو ويعدو ويعدو ... حتى توقَّف الصوت أمام مسيرة حاشدة من الناس، يعلوهم السرور! ويسمو عليهم النورٌ! تغمرهم الفرحة! وتطفو على وجوههم السعادة! وتوقف صاحبنا أمامها أيضاً! فأعجِب بهاتيك السعادة والفرحة، وذاك النور والسرور!

وبينما هو في دهشة وعجَب من هؤلاء المجتمعين وإذا بالصوت يخاطبه: هل عرفتَ هؤلاء؟

فقال: لا، ومن هم؟

فقال: هم الصحابة رضي الله عنهم يستمعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب في عرفة في حجة الوِداع...

فخرجَ مِن فيه طوعاً: الله أكبر!

وقال بصوت، يقطر منه استلطاف: هل يمكن أن أسعد برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فأجاب: كيف ذلك! ألا تراه يخطب؟ فكيف تصل إليه؟

وفجأة تغيرَّ المنظر، ورأى مجموعة أخرى جالسة في المسجد يصغون إلى رجل نحيل الجسم، يبدو عليه علائم العزيمة والإرادة.

فسأل مصدرَ الصوت برجاء: من هذا الخطيب؟ ومن هؤلاء الجلوس أمامه؟

فقال: هو أبو بكر الصديق، صاحب الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخاطب الجيش الإسلامي قبل توديعهم لحرب أهل الردة، ألا تسمعه يقول: [أينقص الدين وأنا حي]...

تعالَ! اتَّبعْني! فاتَّبعه صاحبنا، وهو لا يملك أن يردّ طلبه، فبدأ يسير معه إلى الأمام دون توقف، وهو يقول: هذه خديجة بنت خويلد وهو تعارض سيل الكفر داعمة لدعوة الإسلام، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يخاطب فاتح مصر عمرو بن العاص قائلاً في ضجر: [متى استعبدتم الناس! وقد ولدتْهم أمهاتُهم أحرارا]، وهذا عثمان بن عفان، يجمع الناس على مصحف واحد، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يعلِّم الناس أحكام التعامل مع الخوارج، وهذا معاوية بن أبي سفيان وهو يرسل الجيش الإسلامي لفتح قسطنطينية،  وهذا عقبة بن نافع وهو يسير بخطى واثقة إلى فتح أفريقيا، وهذا عمر بن عبد العزيز وهو يردّ المظالم إلى أهلها، ويأمر العلماء بجمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا طارق بن زياد وهو يخطب في جيشه بعد أن عبر إلى عدوة الأندلس لعزو القوت، وهذا محمد بن القاسم الثقفي وهو يتجه بجيشه إلى الهند استجابة لنداء فتاة مسلمة من تخومها، وهذا قتيبة بن مسلم الباهلي وهو يسير لفتح الصين طمعاً في نشر الإسلام، وهذا عبد الرحمن الغافقي وهو يقاتل جيش الغاليين والجرمان في معركة بلاط الشهداء في شمال فرنسا، وهذا المعتصم بالله وهو يستجيب لنداء امرأة مسلمة ب [وامعتصماه]، وهذا محمود بن سبكتكين وهو يفتح الهند الكبرى باسم الإسلام، وهذا نظام الملك تجتمع فيه السياسة والحنكة والمعرفة، وهذا صلاح الدين الأيوبي وهو يتجه إلى فتح بيت المقدس بعد أن هزم الصليبيين في حطين، وهذا يوسف بن تاشفين، وهو يوحد الأندلس والمغرب الأقصى تحت راية الإسلام، وهذا سيف الدين قطز وهو يكفل راجعاً بعد أن دحض التتر في معركة عين جالوت، وهذا محمد الفاتح وهو يفتح قسطنطينية لأول مرة، عاصمة النصاري، وهذا المنصور المريني، الذي لم يجرب الهزيمة في الحياة، وهذا موسى بن أبي غسان، آخر من دافع عن الأندلس المسلمة، وهذه عائشة الحرة التي ذهبت مقولتها مثَلاً "ابك كالنساء مُلكاً، لم تستطع تدافع عنه كالرجال"، وهذا سليمان القانوني وهو يقود جيشه إلى النمسا، أبعد حدود أوربا، وهذا أحمد بن عبد الأحد السرهندي وهو يواجه الدين الإلهي الذي اخترعه الإمبراطور أكبر المغولي، وهذا عالمكير وهو يعيد صورة الخلافة الراشدة في الهند المغولية، وهذا عبد الكريم الخطابي وهو يتحدى المستخرب الفرنسي في الريف المغربي، وهذا عمر المختار وهو يواجه الطليان بسلاحه المتواضع، وهذا عبد الحميد بن باديس وهو يعلم الناس بأن العلم لا يجعل من العالم جباناً، وهذا محمود الحسن الديوبندي وهو يتحدى الإنجليز بحركة منديل الحرير ...

انظر إلى هذه الجهة... فنظر صاحبنا إليها، وإذا بأناس متحلِّقين في حلقات صغيرة، وأناسٍ مكبِّين على الكتب، فسأل صاحبَ الصوت باستعطاف: ومن هؤلاء؟

فقال: هذا عبد الله بن مسعود وهو يعلم تلاميذه طريقة الاجتهاد، وهذا عبد الله بن عباس وهو يلقي درسه في التفسير، وهؤلاء تلاميذ عائشة وهي تجيب عن استفساراتهم من بيتها،  وهذا عبد الله بن عمر وهو يعلم الناس حب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أم سليم وهي تعرض ولدها أنس لخدمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا عروة بن الزبير وهو يكتب في السيرة لأول مرة، وهذا مالك بن أنس وهو يكتب الموطأ، وهذا أبو حنيفة وهو يشاور تلاميذه في مجمع الفقه الإسلامي، وهذا محمد بن إدريس الشافعي وهو يكتب رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي، أول رسالة في علم أصول الفقه، وهذا أحمد بن حنبل وهو يواجه مأمون الرشيد في شجاعة نادرة، أقوى رجل في عصره، وهذا إبراهيم بن أدهم وهو يرفض بلاط الملك بحثاً عن رضى الرحمن، وهذا أبو جعفر الطحاوي وهو يكتب رسالته في العقيدة،  وهذا خليل بن أحمد الفراهيدي وهو يؤسس علم العروض والقافية، وهذا محمد بن إسماعيل البخاري وهو يؤلف صحيح البخاري، أعظم كتاب في صحيح السنة النبوية، وهذا عباس بن فرناس وهو يحاول الطيران، وهذا محمد بن جرير الطبري وهو يكتب جامع البيان، أول كتاب جامع في التفسير المأثور، وهذا أبو الطيب المتنبي وهو يلقي قصائده الغضة في سوق الأدب، وهذا أبو بكر الباقلاني وهو يستعد لمناظرة النصارى في بلاط ملك النصارى، وهذه فاطمة الفهرية وهي تبني جامع القرويين، أول جامعة في تاريخ العالم، وهذا أبو حامد الغزالي وهو يكتب كتابه تهافت الفلاسفة رداً على أقوال الفلاسفة في الميتافيزيقيا، وهذا ابن حزم الظاهري وهو يتصدى للعقائد الباطلة، وهؤلاء الوافقون حول البئر تلاميذ السرخسي وهو يملي عليهم من البئر كتابه المبسوط، وهذا عبد القاهر الجرجاني وهو يكتب دلائل الإعجاز، ليؤسس علم البلاغة، وهذه فاطمة السمرقندية وهي توقّع على فتوى أبيها دعماً لها،  وهذا العز ابن عبد السلام وهو ينادي في الناس ببيع الأمراء! وهذا أبو زكريا النووي وهو يمتنع عن تناول فواكه دمشق خوفاً من الشبهة، وهذا تقي الدين ابن تيمية وهو يكتب درء تعارض العقل والنقل؛ ليثبت بأن العقل السليم لا يعارض النقل الصحيح، وهذا ابن كثير وهو يؤلف تاريخه البداية والنهاية،  وهذا شمس الدين الذهبي وهو يكتب سير أعلام النبلاء في تراجم الأعلام، وهذا أبو إسحاق الشاطبي وهو يعيد النظر في كتابه الموافقات، ليؤسس علم المقاصد، وهذا عبد الرحمن ابن خلدون وهو يكتب مقدمته، يقعِّد من خلالها لعلم الاجتماع، ويدعُ فيها فلسفته في التاريخ، وهذا ابن حجر العسقلاني وهو ينهي كتابه فتح الباري، أعظم شرح لصحيح البخاري، وهذا مرتضي الزبيدي وهو يهدي قاموسه تاج العروس في شرح القاموس لأهل اليمن، أعظم قاموس في اللغة العربية، وهذا ولي الله الدهلوي وهو يعلّم الناس بهدوء بحر العلم وسط الأمواج المتلاطمة، ويكتب كتابه حجة الله البالغة، وهذا محمد بن عبد الوهاب وهو يجمع بين التوحيد والسياسة، وهذا عبد العزيز الدهلوي يفتي بعدم جواز صلاة الجمعة تحت حكم الاستعمار، فيمتنع الناس منها، وهذا أحمد بن عرفان الشهيد وهو يعيد نموذج الخلافة الراشدة في شبه القارة الهندية، وهذا قاسم النانوتوي وهو يؤسس مدرسة ديوبند متحدياً النظام التعليمي الإنجليزي، وهذا حسن البنا وهو يحرض الشباب على حمل  أمانة الأمة، وهذا أشرف علي التهانوي وهو يعلم الناس التصوف القائم على الكتاب والسنة، وهذا أنور الكشميري وهو يمثل صورة السلف في قوة الحفظ والبيان، وهذا عبد الحي الحسني وهو يكتب كتابه الإعلام بمن في الهند من الأعلام، أعظم كتاب في تاريخ أعلام الهند، وهذا فيض الله الشاتغامي وهو يعارض سيل البدع بقوة، وهذا أبو الحسن الندوي وهو يكتب كتابه ماذا خسر العالم بانحطاط المسملين، يبين فيه للإنسانية ما فقدتْه بتنحية المسلمين عن القيادة الإنسانية العالمية ...

ويسير صاحبنا وراء صاحب الصوت، والأخير يعرِّفه بهؤلاء الذين يمر بهم...

فالتفت إليه قائلاً: ومن تكون أنت؟ هلّا عرَّفتني بنفسك؟

فقال: أنا؟ ... وإذا بالصوت يبتعد، وإذا بالباب ينفتح، وصاحبنا يظنّ أن صاحب الصوت ينكشف أمامه...

فيحاول أن ينظر إليه بشوق كبير ورغبة شديدة، وإذا بالباب قد انفتح! وإذا به أمام مهد صغير، وفيه نورٌ يلعب... فخرج من فيه:

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات!

وهنا عاد صاحبنا إلى الواقع، ونظر إلى المرآة المبتسمة بجانب المهد، يلوح في صدرها:

يوم الإثنين، 7 شبعان 1437هـ، الساعة 43:5 دقيقة مساء.

فابتسم لها وكبَّر قائلاً: الله أكبرُ! الله أكبرْ ...

 

حسين محمد نعيم الحق

مساعد باحث بمركز ابن خلدون، جامعة قطر
مجموع المواد : 16
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024