إنها طُعمة الصنارة..!
تراءت للسمكة الصغيرة طعمة شهية من بعيد، وذلك أول عهدها بها، فسال لها لعابها....رأت يمينا وشمالا، فوجدت سمكة أخرى كبيرة، وهي محنكة وخبيرة ،ثم عرضت لها إرادتها عن تناولها الطعمة الشهية والاستمتاع بها، إلا أن السمكة الكبيرة تقدمت نحوها، ومنعتها عن تناولها، ولكنها أبت إلا الرغبة فيها والعزم على تناولها، حاولت الكبيرة إقناعها وردعها عن إرادتها، ووصفت لها المشكلة التي ستواجهها بعد تناول هذه الطعمة قائلة:
- إنك إذا تقدمتِ نحوها وفتحتِ لها شدقيكِ ولَحييكِ، وناولتِها بشراهة ونهامة، فربما تُحِسِّين متعتَها لسُويعة، لكن سرعان ما يعقبها الألم الذي يكدر عليك كل سعادتك...
- الألم؟؟ أنّٰى للألم أن يكون في طُعمة شهيّة، فأي ألم هذا ياأماه؟؟!!
- إنه ألم اشتباك الشوكة بحلقومكِ، فإن وراء تلك الطُّعمة صنارة، وعلى الشاطئ صاحبها، فما إن تتعلق شوكة الصنارة بحلقومكِ إلا وتزهق روحكِ، فتشعرين بالألم الشديد، وتتملمَلين تمَلمُلَ السَّليم، ويعرف الصياد أنكِ قد علِقتِ بالصّنارة، فيخرجكِ من البحر الذي كنتِ فيها سعيدة مع أسرتكِ ووالديكِ...وقتَها تزهَق روحُكِ من جسدكِ، فيذهب بكِ الصياد إلى السوق المركزي، فيبيعكِ بأغلى الأسعار، وعندها يُقطّعكِ تقطيعا... ثم يذهب بكِ المشتري إلى بيته، فيسخِّن المقلاة المليئة بالزيت تسخينا للغاية، فيقليك دونما أيّ رأفة ورحمة، وهناك أشخاص جائعون ينتظرونكِ، ثم يعرضونكِ عليهم في الصينية،ِ وعند كل واحد منهم ثنتان وثلثون شفرة في أفواههم يقطعونكِ بها قطعا صغيرة للغاية، ويأكلونكِ بشراهة دونما أي اكتراثِ واضطرابٍ، ويستمتعون بطعماتكِ أيما استمتاع، ثم يكون لكِ مصيركِ الذي لا أستطيع وصفه...
- ولكن يا أماه، لا أجد الآن أي شيئ من هذه الأشياء، لا شوكة ولا صنارة ولاسوق ولا مقلاة ولا أناس جائعون، ولا أي شيئ هناك...فوالله إني لأراكِ في ضلالكِ القديم.
- بنيتي، أصدُقكِ فيما أقول، ولسوف تعلمين كل هذه الأمور بمجرد تناولكِ تلك الطعمة تلقائيا، وتكون هي بمرأى منكِ ومسمع.
فالسمكة الصغيرة إذا لم تتيقن بمقالة الكبيرة المحنّكة، وآثرت لذتها للساعة أو السويعة على العيش السعيد الرغيد في الماء فهي تهوي بنفسها في أودية الهلاك، وتصير إلى مصيرها المرير الذي وصفت لها السمكة الكبيرة... ولو تيقنتْ أن ما وُصف لها سيكون، وآثرت العيش الرغيد المديد في أمواج البحر على لذة سويعة فانية لبقيت سالمة من المرارة الأبدية، وبالتالي يبقى لها نعيمها وعيشها الرغيد مع أسرتها.
نعم، هذا مثل لذة المعصية التافهة التي يجدها الرجل في كافة المعاصي مما حرمها الله من الغيبة والزنا، والفواحش والذنوب، فإن النار وجحيمها وآلامها كلها محفوفة ومحجوبة بستر اقتحام الشهوات واقتراف الذنوب، وإن الجنة ونعيمها وسعادتها الأبدية محفوفة ومحجوبة بتحمل المكاره ومكابدتها كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه من حديثْ أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: حُجِبتِ النَّارُ بِالشَّهَواتِ، وحُجِبتْ الْجَنَّةُ بَالمكَارِهِ (متفقٌ عَلَيه)ِ.
فانطلاقا مما حواه الحديث النبوي من معاني عميقة ومواعيد عظيمة يجب على كل مسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، وبصفة خاصة ذنوب الخلوات والنظر إلى الصور المحرمة على شاشة الجوال عن طريق استخدام الخدمات المجانية للشبكات والتطبيقات، وليحذر الذي يعصي ربه الذي حذره من عواقب هذه المعاصي ونبيه الذي نصح وأشفق على الأمة قاطبة وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها - أن يصيبه ما أصاب السمكة التي آثرت لذة سويعة على سعادة الأبد.
وأعود فأقول: إياك وذنوب الخلوات، إياك ثم إياك! أن تقتحمها عبر استخدام خدمات الشبكة العنكبوتية في السلبيات... التي قد تسلب منك ديانتك وأخلاقك، إلى أن يؤدي ذلك إلى سلب إيمانك (معاذ الله)... فقط بسبب إيثار لذة سويعة على سعادة الأبد.
فيا من أدمن الشاشة صباح مساء، إن أبيت إلا استخدامها فاستخدمها إيجابيا وليس سلبيا، لا سيما في هذه الأيام أيام حظر التجول والتزام البيت، ولتعلم بأنها طُعَم الصنارة التي لذتها لساعة ثم تعقبها المرارة والعقوبات الشديدة في الدارين...فكلما دعتك نفسك إلى عصيان فذكرها بالله، وبأنه يراك في كل أحوالك...كما قال الإمام القحطاني في شعره، ولله دره:
وإذا خلَوتَ برِيبَةٍ في ظُلمَةٍ
والنَّفْسُ داعيةٌ إلىٰ الطُّغيانِ
فاستَحْيِ مِن نَظَرِ الإلَٰهِ، وقل لها:
إنَّ الذي خلَقَ الظَّلامَ.. يَراني"!
ولْتكثر من تلاوة القرآن الكريم وذكر الله قائما وقاعدا، ولتكثر من الاستغفار، وصاحب الصلحاء الأتقياء؛ فإن دين المرء يعرف بدين خليله.
وأخيرا، فلا يمكن لأحد التجنب عن أية معصية إلا بتوفيق وعون من الله تعالى وحوله وقوته، فلتستمد بالله العون في كل خير وعمل صالح؛ فإنه نعم المولى ونعم النصير.
يوسف عبدالرحمن الخليلي
أدبيات/١٣شعبان١٤٤١ ھ