كلام أبي قد أبكاني
القانون هو أن كل شيء يقدر بعد فقدانه، فمادام ذلك الشيء موجودا لا يقدر، وليس هذا القانون قانونا كليا، فالبعض يخالفون هذا القانون مائة في المائة، حيث إنهم يقدرون الأشياء قبل فقدانها أيضا، فالنعم التي أسدلها الله ـ سبحانه وتعالى ـ على الإنسان هي كثيرة، ولا يمكن إحصاؤها كليا، كما يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كلامه المجيد: "إن تعدو نعمت الله لا تحصوها"
فالأب والأم هما نعمتان عظيمتان في الدنيا، حيث جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجنة تحت أقدام الأم، وجعل الأب أوسط أبواب الجنة في رواية أبي الدرداء قال: إنَّ رجلًا أتاه فقال: إنَّ لي امرأةً، وإنَّ أمي تأمُرني بطلاقها، فقال أبو الدرداء: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئتَ فأضع ذلك البابَ أو احفظ"، لكن محور كلامي اليوم هو الأب، والقصة التي أذكرها بدايتها من الاتصال، حيث إني أتصل بأبي وأمي في الأسبوع مرتين أم ثلاث، بل في بعض من الأحيان أربع مرات أيضا، لأتفقد أحوالهما، وأخبرهما عن حالي..
وبما أن يوم أمس كان يوما حافلا بإنجاز بعض الأمور، فأرهقت نفسي فيه إلى الساعة السادسة مساء، ولكنها لم تتم بسبب ما، فأحببت الاتصال بأبي، وأخبره بأني اليوم فعلت كذا وكذا، والساعة كانت متأخرة حيث إنها تدق الساعة التاسعة وخمسا وأربعين دقيقة، فاتصلت به، فرد علي مباشرة، فبدأت الحديث معه، ثم أخبرته ما جرى معي اليوم، فسألني عن إنجاز الأمر، هل تم أم لا؟ فقلت له: لم يتم إلى الآن، فهنالك بعض الأشياء فيه كانت ناقصة، فطلبوا مني أولا إكمالها، ثم الذهاب إليهم مرة أخرى، فهم ينجزونه.
ثم سألني لعلك اليوم أرهقت نفسك كثيرا، وكانت الحرارة على الأوج والقمة، فقلت له: نعم، أبي، كنت أشعر ذلك، لكن لم يكن لدي سبيل سوى الذهاب إلى ذلك العمل، فتحملت تلك الحرارة في سبيل إنجازه، فقال لي أبي كلاما، لم يسبق لي سماعه منه، وهذه أول مرة يقول لي هذا الكلام، وأنا أحلف بالله إن كلامه كان مبكيا، فلم أبك في نفس الوقت بسبب وجود بعض الأصدقاء معي، ولكن لم ذهب إلى فراشي للنوم، فتذكرت كلامه، فبكيت، وقلت في نفسي: الأب هو في النهاية الأب!؟
رغم أنني كبرت، ولي أولاد، ومع ذلك يقول لي: وكأني ما أزال صغيرا ، ومما لا شك إنني أمام أبوي لا أزال صغيرا، حيث لا أقوم بعمل إلا بإذنهم، فإن أجد موافقتهما فأعمل، وإلا فأترك، وسوف أكون على هذه الوتيرة مدى حياتهما، وإن كانت نفسي لا ترضى به.
فكلمات أبي لم تفارقني، ولا تنفك من دماغي، بل تترد في أذني، وكأن أحدا يرددها في أذني مرارا وتكرارا، حتى أخذني النوم في ساعة متأخرة، ولا أتذكر تلك الساعة، ثم لما استيقظت في الصباح الباكر كنت أتذكر تلك الكلمات، فأحببت تقييدها بقلمي، حتى من الممكن في المستقبل أرددها على أولادي، والكلام الذي قال لي أبي هو: يا بني لا تتعب نفسك كثيرا، ولا ترهقها إلى هذه الدرجة، وإلا ستمرض.
فتكفرت أنني بعيد عن أبي وأمي، من حيث المسافة، ولكني قريب منهما من حيث القلوب، فإنهما يدعوان لي كل خير، ويتمنيان لي أحسن الأمنيات، ويتفكران لي فيما هو خير لي، وما عندي كلمات أعيدها إليهما، ولا أرى أجمل كلمات لهما سوى كلمات التي جاءت في القرآن الكريم، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[1] فدعوت لهما، وألزمت نفسي بأنني سوف أخصص وقتي للدعاء لهما.
[1] - الإسراء، الآية: 24.