مقامات الحريري وتكوينُ الملكةِ اللغويةِ
من أهمِّ الكتبِ التي يُنصح بها من أرادَ تكوين ملكة لغوية عربية، كتابُ مقاماتِ الحريري، فهو ثروةٌ لغويةٌ ثرية جداً بالمفردات والتراكيب الفصيحة والجزلة، ولغتها مسبوكة ومتينة، وإن كانت لا تخلو من بعض التصنع. وقد قال الحريري في مقدمته -وصدق- أنها: (تحتوي على: جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى: ما وشَّحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها: من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية، والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والخطب المحبرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية)
والمقاماتُ: هي نوع من القصص القصيرة تحفل بالحركة التمثيلية، ويدور الحوار فيها بين شخصين، ويلتزم مؤلفها بالصنعة الأدبية التي تعتمد على السجع والبديع.
ومقامات الحريري هي أجملُ وأشهرُ المقامات الأدبية، وإن كان من ابتكر هذا الفن هو (بديع الزمان الهمذاني)، لكن الحريري فاقه في الجودة والإبداع والمتعة والصنعة، فمقاماته هي الأكثر شهرةً والأجل أثراً، وتضم خمسين مقامة.
تدورُ فكرة كتاب مقامات الحريري حول اِبتزاز المال عن طريق الحيلة والمكر والدهاء، من خلال مغامرات بطلها دائماً: (أبو زيدِ السروجي)، يحكيها الراوي: (الحارث بن همام)، ولقيت عناية فائقة جداً من العلماء قل أن يلقاها كتابٌ مشابه، وتنافس الأمراء وكبار الوجهاء على اقتناء نسخه.
يقول حاجي خليفة متحدثاً عنه: (كتابٌ لا يحتاج إلى تعريف لشهرته)، وقد قال الزمخشري في مدحه وهو معاصرٌ للحريري:
أقسم بالله وآياته * ومشعر الحج وميقاته..
أن الحريري حريٌّ * بأن نَكتُبَ بالتبر مقاماته..
"التبر أي الذهب، وفي البيت الأول قسم بغير الله لا يجوز"
ويقول القاضي عياض: (لما وصلَ إلى بلدِنا كتابُ المقاماتِ للحريري -وكنتُ لم أرها قبلُ- لمْ أَنَمْ ليلةَ طالعتُها حتى أكملتُ جميعَها بالمطالعةِ).
للمقامات شروح كثيرة جداً، عدَّ منها صاحب كتاب (كشف الظنون) (حاجي خليفة) أربعين شرحاً، ونص صراحةً على أنَّ أجودها وأفضلها شروح أبي العباس الشريشي (وله عليها ثلاثة شروح، كبير ومتوسط وصغير) وأحد شروحه منتشر ومتوفر وهوُ الشرح الكبيرُ، وأضخمها شرح ابن الساعي البغدادي، وهو في خمسة وعشرين مجلداً ولم أجده، وأقدمها: شرح أبي سعيد الحلي تلميذ الحريري، وقد قرأ شرحه عليه.
كيفية الاستفادة منها في تكوين الملكة اللغوية:
والاستفادة منها في تكوين ملكة لغوية يبدأ باقتناء كتاب المقامات مضبوط الشكل، ومحشَّى فقط بشرح الغريب، وما استشكل من كلمات الكتاب وتراكيبه، كالطبعة الصادرة عن دار الباز للنشر والتوزيع.
في القراءة الأولى ستضطرُ للعودة كثيراً للهامش لمعرفة معاني الكلمات الغريبة المبثوثة في طيات المقامات، لكن لا تيأس ولا تستسلم، وواصل القراءة فما تجده من لذة الحبكة القصصية، والقدرة العالية على التحكم بالألفاظ سيخفف عليك تعب تتبع معاني الألفاظ، فإذا أنهيتها فأعد القراءة وفي المرة الثانية ستكون نظرتك للهامش بلا شك أقل، وستجد أن رصيداً كبيراً من الكلمات ومعانيها، والتراكيب والمقصود بها علق في ذهنك، وستمرُّ عليك المقامات بلذةٍ أكثر من المرة الأولى.
كررها مراراً، بهذه الطريقة؛ حتى تصل لمرحلة أن تقرأها بانسيابية تامة، ولا تقف عند أي لفظ من ألفاظها.
كما أن للمقامات تسجيلاً مسموعاً، بلغة فصيحة، فلعلك تستعيض عن بعض القراءات التالية بالسماع، وتستذكر المعاني التي قرأتها في الهوامش وأنت تسمع.
بعد أن تصل لهذه المرحلة فلتقتنِ شرح الشريشي للمقامات، فهو شرحٌ ماتعٌ، قال عنه حاجي خليفة صاحب كشاف الظنون: (ولم يترك في كتاب من شروحها فائدة إلا استخرجها، ولا فريدة إلا استدرجها، فصار شرحا يغني عن كل شرح تقدمه، ولا يحتاج إلى سواه في لفظ من ألفاظها). وأقرأ المقامات بشرحها، فستجد كنوزاً أدبية، وفوائدَ لغوية، ودرراً نافعة في طيات الكتاب، ستزيد من رصيدك اللغوي والأدبي.
وإن حفظت المقاماتِ حفظاً ففي ذلك فائدةٌ أكيدةٌ، وحصيلةٌ لغويةٌ راسخةٌ، وقد اهتم بحفظها الكثيرُ من طلبة العلم، لكن إن قَصُرت بك الهمةُ عن الحفظ فلا تَقصُر بك عما تقدم من القراءة والتكرار.
نفعني الله وإياك بما علمنا.