تحقيق النصوص
تحقيق النصوص علم له قوانينه وأعرافه ومصطلحاته وأدواته ، وله جانبان : جانب الصنعة ، وجانب العلم.
فأما جانب الصنعة : فهو ما يتصل بجميع النسخ المخطوطة للكتاب المراد تحقيقه ، والموازنة بينها واختيار النسخة الأم أو الأصل كما سنعرض له فيما بعد- ثم ما يكون بعد ذلك من توثيق عنوان المخطوط واسم المؤلف ، ونسبة المخطوط إليه ، ونسخه والتعليق عليه ، وتخريج شواهده وتوثيق نقوله وصنع الفهارس الفنية اللازمة ، فهذا كله جانب الصنعة الذي يستوي فيه الناس جميعاً، ولا يكاد يفضل أحد احدأ فيه ، إلا بما يكون من الوفاء بهذه النقاط او التقصير فيها.
وأما جانب العلم في تحقيق النصوص : فهو الغاية التي ليس وراءها غاية ، وهو المطلب الكبير الذي ينبغي أن تصرف إليه الهمم ، وتبذل فيه الجهود، ولاء لهذا التراث العريق ، وكشفاَ لمسيرتنا الفكرية عبر هذه الأزمان المتطاولة.
وتلخيص هذا الجانب الَان في هذه المحاضرة المحدودة عسر كل العسر، والتدليل عليه لا يكون إلا بالنظر في أعمال المحققين الأثبات ، وقراءة حواشيهم، وسترون ان هؤلاء المحققين العلماء دائرون في قضايا العربية كلها التي يدور حولها النص ، اصالة أو استطراداَ، ثم تأملوا جريدة مراجعهم وستجدون أنها تكاد تغطي المكتبة العربية كلها، فعدة المحقق هي الكتب في كل فن، لأنه في كل خطوة يخطوها مع النص مطالب بتوثيق كل نقل ، وتحرير كل قضية ، بل إن المحفق الجاد قد يبذل جهداً مضنياَ لا يظهر في حاشية أو تعليق ، وذلك حين يريد الاطمئنان إلى سلامة النص واتساقه ، ولا يشفع له إذا كبا أو تعثر أنه متخصص في النحو فقط، او في البلاغة فقط ، فلا بد أن يكون على صلة باللغة والنحو والتفسير والحديث - متناَ وسنداَ - وعلم الكلام ، والأصول والفقه ، والأدب والبلاغة والعروض والتاريخ والبلدان (الجغرافيا) وسائر فروع العلم ، إن لم يكن من طريق الِإلمام الكامل - وهذا شاق بلا ريب - فمن طريق الأنس بكنب هذه الفنون ، والدُربة على التعامل معها والِإفادة منها ، ومعرفة مظنة العلم نصف العلم.
وعلى ذلك فإن طالب الدراسات العليا حين يحقق نصاً ترائياَ على هذا النحو، إنما يقدم مادة علمية محررة ، تقوم عليها دراسات الدارسين ، فلا دراسة صحيحة مع غياب النص الصحيح المحرَّر .
وكم رأينا من دراسات انتهت إلى نتائج غير صحيحة، لإنها اتكأت على نصوص محرفة ، وأوضح ما نرى هذا في الدراسات الشعرية التي قامت على دواوين شعرية غير محققة.
والتحقيق في اللغة : التصديق أو قول الحق ، والِإحقاق : الِإثبات ، يقال : احققت الأمر إحقاقاَ : أي أثبته وأحكمته وصححته .
والجاحظ يسمى العلماء الأثبات : العلماء المحقين . (رسالة فصل العداوة والحسد- رسائل الجاحط 1 / 339) ، والشريف الرضي يسفيهم " العلماء المحفيين " (حقائق التأويل ص 0 2) .
والتحقيق في اصطلاح نشر التراث : "هو أن يؤدَّى الكتاب أداء صادقاً كما وضعه مؤلفه كماً وكيفاً بقدر الِإمكان"، والكتاب المحقق : "هو الذي صج عنوانه واسم مؤلفه ونسبة الكتاب إليه ، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه ".
ولتحقيق هذه الغاية لا بد من إجراءات علمية تدور على النقاط التالية:
1 - تحقيق عنوان الكتاب
2 - تحقيق اسم المؤلف.
3 - تحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه.
4 - تحقيق متن الكتاب حتى يظهر بقدر الِإمكان مقارباً لنص مؤلفه.
والخطوة الأولى في تحقيق الكتاب هي : جمع قدر معقول من مخطوطاته، والموازنة بين نسخ هذه المخطوطات لاختيار النسخة الأصل أو النسخة الأم ، والنسخ المساعدة ، ويتم اختيار هذه النسخة الأصل وفق معايير معينة ، هي على هذا الترتيب:
1 - أن تكون النسخة بخط المؤلف ، أو تكون من إملائه على أحد تلاميذه ، أو تكون قد سمعت عليه ، أو أجاز روايتها عنه ، على أن يثبت في أول النسخة أو آخرها ما يدل على ذلك.
2 - أن تكون النسخة مأخوذة عن النسخة السابقة التي هي الأصل ، أو تكون فرع فرعها.
3 - إذا فقدت نسخة المؤلف أو النسخة المنقولة عنها - وهي فرعها أو فرع فرعها - فيكون المعيار العام في تفضيل نسخة على أخرى هو قِدم تاريخ النسخ، وقربه من عصر المؤلف ، مع سلامة المتن وصحة النسخ.
ويدور عمل المحقق بعد أن ينسخ الكتاب من الأصل المخطوط الذي اختاره وارتضاه ، وبعد المقابلة على النسخ الأخرى ، على جملة من التعليقات ، هي:
1 - ذكر فروق النسخ ، ولا يذكر من هذه الفروق إلا ما له وجه ومعنى.
2 - تخريج النصوص (قراَن - حديث - شعر - مثل) . وتخريج النصوص هو الدلالة على مواضعها في مصادرها.
3 - توثيق النقول! التي صرح المؤلف بنسبتها إلى أصحابها، أو التي سكت عنها ، ثم عرف المحقق اصولها وأصحابها.
4 - التعريف بالأعلام والأماكن ، ولا يعرف منهما إلا ما كان مجهولاَ أو قليل الشهرة .
5 - الشروح اللغوية للألفاظ الغريبة ، ويتصل بها شرح المصطلحات ، والِإشارات التاريخية.
وواضح أن تعليقات المحقق التي تقوم على هذه النقاط الخمس ، ينبغي ا ن تكون في دائرة إضاءة النص وتوضيحه فقط ، فلا يصج ان يتوسع فيها حتى تخرج إلى التفسير الكامل ، فتحقيق النصوص ليس شرحأ لها.
ويسبق هذا العمل عمل ويقفوه عمل ، فأما الذي يسبقه فهو ترجمة لمؤلف الكتاب ، على المنهج المعروف عند أئمة التحقيق ، ثم حديث عن الكتاب المحقق، ومكانه في الفن الذي يدور حوله ، تأثراً وتأثيراً، ثم مكانة الكتاب في المكتبة العربية على وجه العموم .
وأما الذي يقفوه فهو فهارس فنية تكشف عن كنوز الكتاب وفوائده ، وتجرى هذه الفهارس على النحو الذي عرف عند شيوخ صنعة التحقيق.
ويستعمل مصطلج التحقيق مرادفاً لمصطلح "التصحيج" أو "النشر"، وفي بداية الطباعة العربية لم يعرف هذا المصطلج "التحقيق" ، ولعل أول من استعمله ووضعه على صدر الكتب التي نشرها هو : أحمد زكي باشا ، شيخ العروبة ، المتوفى سنة 1353 هـ- 1934 م ، وذلك فيما نشره من هذه الكتب:
الأصنام ، لابن الكلبي 1332 هـ- 4 191 م ، والتاج في أخلاق الملوك ، المنسوب للجاحط ، في السنة نفسها ، وأنساب الخيل ، لابن الكلبي ، الذي طبع بعد وفاته سنة 1365 هـ- 1946 م .
وقد مرَّ تحقيق التراث أو نشره في الديار المصرية بأربع مراحل:
المرحلة الأولى:
مطبعة بولاق والمطابع الأهلية . وفي هذه المرحلة نشرت النصوص التراثية فقط خالية من دراسة الكتاب وترجمة مؤلفه وذكر مخطوطاته وفهرسته ، لكن النشر في تلك المرحلة اتسم بالدقة المتناهية والتحرير الكامل ، وكان يقوم على التصحيح (التحقيق) فئة من أهل العلم ، يأتي على رأسهم الشيخ نصر الهوريني ، والشيخ محمد بن عبد الرحمن ، المعروف بقطة العدوي ، كما شمل النشر في تلك المرحلة اصول التراث العربي كله ، دون تحيز إلى مذهب أو اتجاه .
المرحلة الثانية:
عنيت هذه المرحلة إلى حد ما بجمع النسخ المخطوطة للكتاب المراد نشره ، وذكر ترجمة المؤلف ، وبعض الفهارس ، وتعرف هذه المرحلة بهذه الأسماء : محمد أمين الخانجي ، ومحب الدين الخطيب ، ومحمد منير الدمشقي ، وحسام الدين القدسي.
المرحلة الثالثة:
مرحلة دار الكتب المصرية . وفي هذه المرحلة أخذ تحقيق الكتب ونشرها يتجه إلى النضج والكمال ، من حيث جمع النسخ المخطوطة من مكتبات العالم، وإضاءة النصوص ببعض التعليقات والشروح ، وصنع الفهارس التحليلية الكاشفة لكنوز الكتب ، وما يسبق ذلك كله من التقديم للكتاب وبيان مكانه في المكتبة العربية.
وقد تأثر هذا المنهج إلى حد ما بمناهج المستشرقين الذين نشطوا إلى نشر تراثنا وإذاعته من القرن الثامن عشر الميلادي . وقد وقف على رأس هذه المرحلة أحمد زكي باشا ، شيخ العروبة.
المرحلة الرابعة:
مرحلة الأفذاذ من الرجال ، وهي مرحلة الأعلام : احمد محمد شاكر، ومحمود محمد شاكر ، وعبد السلام محمد هارون ، والسيد أحمد صقر . وقد دخل هؤلاء الرجال ميدان التحفيق والنشر مزؤَدين بزاد قوي من علم الأوائل وتجاربهم، ومدفوعين بروح عربية إسلامية عارمة ، استهدفت إذاعة النصوص الدالة على عظمة التراث ، الكاشفة عن نواحي الجلال والكمال فيه . ومن أعظم آثار هذه المرحلة تحقيق هذه الكتب العالية : الرسالة ، للشافعي ، وطبقات فحول الشعراء، لابن سلام ، والبيان والتبيين ، والحيوان ، للجاحظ ، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، وإعجاز القراَن للباقلاني . وقد أثرت هذه المرحلة تأثيراً كبيراَ، في كل مكان نشر فيه تراث عربي.
وفي العفود الأربعة الأخيرة افسحت الجامعات العربية صدرها لتحقيق المخطوطات سبيلاَ للحصول على الشهادات الجامعية العليا (ماجستير - دكتوراة)، لكن الجامعات العربية حين فعلت ذلك لم تزود الطالب بما يعينه على تحقيق ذلك النص ، من معرفة لمناهج التحقيق ، وقراءة المخطوطات المشرقية والمغربية ، وتوثيق النقول وتخريج الشواهد، وصنع الفهارس ، وحدود التعليق على النص ، والتقديم له ، ثم الوقوف على أمهات المراجع العربية ، في فنون التراث المختلفة ، ومعرفة التعامل معها ، والِإفادة منها.
وكان مأمولاَ أن تثمر تلك الجهود التي بدأها شيخنا عبد السلام هارون رحمه اللّه ، في دار العلوم ، والأستاذ مصطفى جواد رحمه اللّه ، في كلية الاداب بجامعة بغداد، تلك الجهود التي استهدفت تعريف الطلاب بفن تحقيق النصوص ومناهجه ، من واقع تجارب الشيخين ، ولكن تلك الجهود، لم تتم ولم يكتب لها الشيوع . ولم تبق إلا تلك الِإشارات العاجلة الخاطفة عن تحقيق النصوص ، والتي تجيء في ثنايا مادة "مناهج البحث " التي تدرس للطلبة في السنة المنهجية المؤهلة للدراسات العليا، ومعظمهما مما يسقط إلى اساتذة هذه المادة من الترجمات الغربية ، ومن منظور استشراقي بحت . فلم يجد الطالب الذي يتصدى لتحقيق نص سبيلاً أمامه إلا أن يركض هنا وهناك ، ويتخبط بين منهج ومنهج ولا يخرج بشيء، لأنه دخل بغير شيء .
وقد كان موقف بعض الجامعات العربية من تحقيق النصوص ، موقفاَ غريباً متناقضاً، فهي قد قبلته طريقاً للحصول على الماجستير والدكتوراه ، ثم رفضته في أعمال الترقيات العلمية (يح!ونه عاماً ويحرِّمونه عامّاً) - . وليست الترقية العلمية اشد خطرأ من إجازة الدكتوراه . وكانت حجة الرافضين أن تحقيق النصوص قد اتخذ مركبأ سهلأ. وهذا حق ، ولكن ما هكذا تكون الأحكام عامة مطلفة ، والأولى أ ن يقال : إن تحقيق النصوص عمل من الأعمال العلمية ، جئده جيِّد ، ورديئه رديء .
ومهما يكن من أمر : فقد كانت مشاركة الجامعات العربية في تحقيق النصوص سبيلاً لِإظهار بعض النصوص التي لا يقبل عليها الناشرون كثيرا، ولا يهتمون بها، لأنها لا تحقِّق ربحاً ، لقفَة جمهورها من القراء.
واللّه أعلم.