فضيلة الشيخ أبو الفتَح محمد يحيى؛ مِثال العالم المحقّق
في صبيحة غُرة شهر جمادى الأخرى عام 1373هـ الموافق 5 فبراير 1954م وُلد مترجَمنا في قرية مالي دَانْغَا بمحافظة مؤمن شاهي، فكانتْ أسرته أسرة دين وخلُق وعلم، حيث كان والده فضيلة الشيخ مِيَا حسين من العلماء العاملين، وكان خريجَ جامعة دار العلوم، ديوبند الشهيرة، ومدير مدرسة دار العلوم بقريته، وكانتْ أمه مِهر النساء امرأة عابدة قانتة.
سمّاه والده بـ يحيى، وكانتْ لتسميته بهذا الاسم قصةٌ طريفة! حيث كان والده قد صعِد مرة أحد الجبال القريبة من جامعة ديوبند، أيامَ كان طالباً فيها، وكان يتلو سورة مريم، فتأثَّر بقصة سيدنا يحيى عليه السلام التي نقلها القرآن الكريم قائلاً: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } [مريم: 12 - 15]، فعزم الشيخ أن يسمّي ابنه الأول بهذا الاسم المبارك، فكان كما أراد، فسمّاه بـ يحيى؛ لأنه كان ابنه البكر، والذي غدا فيما بعد من العلماء البارزين في بنغلاديش.
وكانتْ لتكنيته بـ أبي الفتَح طرفةٌ أيضاً! وذلك أنه كان طالباً زكياً ونابهاً أيام الدراسة والطلب، فكنّاه أحد أساتذته بأبي الفتاح؛ نظراً لذهنه الوقاد وزكائه المفرط.
أما الاسم المبارك (محمد) فهو اسم تشريفي تبريكي، يذكره المسلمون في الهند تيمناً وتبركاً، وبذلك صار اسم الشيخ الكامل: أبو الفتح محمد يحيى.
دراسته الأكاديمية
بدأ الشيخ دراسته على يد والدته الكريمة، فدرس عندها دروس التهجي الأوليَّة، ثم التحق بمدرسة دار العلوم التي أسّسها والده الشيخ مِيا حسين، وأنهى فيها المرحلة الابتدائية، كما أنهى المرحلة الإعدادية والثانوية بالقسم العلمي في مدرسة أخرى، ثم التحق بالجامعة العربية، فريد آباد، وكان الأول على جميع طلاب البكالوريوس في الامتحان المركزي الذي أقيم تحت إشراف منظمة وفاق المدراس العربية، بنغلاديش عام 1981م، ثم التحق الشيخ بالجامعة الشرعيَّة، ماليبَاغ، وحصل على شهادة الماجتسير في الدراسات الإسلامية، وكان الرابع على جميع الطلاب في الامتحان المركزي لشهادة الماجستير، دفعة 1982-1983م، وبذلك انتهتْ دراسته الأكادمية؛ ليكمل حياته التدريسية وعطاياه العلمية.
حياته العملية
عيِّن الشيخ مدرساً للحديث الشريف في مدرسة مَظاهر العلوم، بمحافظة سِلْهَتْ بعد التخرج عام 1984م، وعمل فيها لمدة سنة، ثم عيِّن مدرساً في الجامعة الشرعيَّة، ماليبَاغ، ودرَّس فيها لمدة أربع سنوات، ثم استقال منها ليعمل في جامعة شمس العلوم، حيث درّس لمدة ثلاث سنوات، ثم كفل راجعاً إلى الجامعة الشرعيّة مرة أخرى، ليقضي بقية حياته العلمية التدريسية فيها.
الأعمال الإدارية التي تقلّدها
تمَّ تعيين الشيخ نائباً لمدير الجامعة الشرعيَّة عام 1999م، وشغل هذا المنصب بمهارة وأمانة لمدة تسع سنوات، ثم استقال منها ليتفرَّغ للتدريس مرة أخرى، كما عيّن نائباً للأمين العام لمنظمة وِفاق المدارس العربية، وشغل هذا المنصب حتى الوفاة، كما كان يؤم المصلين في صلاة الجمعة في (جامع بيت التقوى) بمنطقة شهيد باغ منذ 15 سنة.
تأسيس لجنة الطلبة
كان العلماء في بنغلاديش يكتبون باللغات الأردية، والفارسية، والعربية، وقليل منهم باللغة البنغالية التي هي لغة الأمة لعامة الشعب، حتى بعد استقلال بنغلاديش عام 1971م، وهذا ما أثّر سلباً في الثقافة الإسلامية في بنغلاديش، حيث استطاع العلمانيون أن يسيطروا على مقاليد اللغة النبغالية، فحوّلوها إلى لغة علمانية تنطق باسمهم وتأتمر بأمرهم!؟
فكانتْ هناك جهود قيمة من قبل بعض كبار العلماء الغيورين، على رأسهم العلامة محمد شمس الحق الفريد فوري رحمه الله تعالى، الذي كان يكتب باللغة البنغالية منذ وقت مبكر، والشيخ محمد محي الدين خان، وغيرهما.
وفي أواخر سبعينات القرن الماضي بدأ بعض العلماء الشباب وطلبة العلم يفكرون في تفعيل دور العلماء في اللغة البنغالية، فأسّس فضيلة الشيخ فريد الدين مسعود حفظه الله تعالى، وقد ساعده في ذلك بعض العلماء الآخرين وطلبة العلم، مثل الشيخ الدكتور مشتاق أحمد، والشيخ محمد إسحاق الفريدي، والشيخ أبو الفتاح محمد يحيى وغيرهم من العلماء الشباب الغيورين على الأمة وميراثها ولغتها، فأسّسوا لجنة الطلبة، التي لفتتْ أنظار الطلبة واسترعتْ اهتمامهم باللغة البنغالية، فكانوا يزيرون الجامعات والمدراس الإسلامية، ويشجعون الطلبة على تعلم اللغة النبغالية، والتمكن منها، والبراعة فيها، والكتابة بها، فكان الشيخ أبو الفتح في طليعة تلك القافلة الغيور التي حرصتْ على لغة الأمة، وأدركتْ أهميتها الحضارية والثقافية.
قرار منع الفتوى والشيخ أبو الفتح
أصدرتْ المحكمة العليا في بنغلاديش قراراً بمنع الفتوى من قِبل العلماء والفقهاء في كافة البلد عام 2001م، وسلبَ هذا القرارٌ الجائر الحقَ العلمي الأصيل والمسؤولية الدينية والحضارية المهمة من العلماء، فترافع العلماء ضد هذا القرار الغاشم في محكمة النقض، وبذِبتْ جهود جبارة في سبيل إلغائه، وقد ألَّف الشيخ أبو الفتح كتابه (الفتوى والفقه والحديث) بإيعاز من فضيلة المفتي العلامة محمد فضل الحق الأميني رحمه الله تعالى – البرلماني الأسبق في مجلس الشعب – وقد حاول الشيخ أبو الفتح من خلال هذا الكتاب توضيح أهمية الفتوى في حياة المسلم، ومسؤولية الفقهاء الشرعية تجاتها، والفرق بينها وبين القضاء وغيرها من الأمور المتعلقة بها، فكان لهذا الكتاب وغيره أثر طيب في هذه القضية، وقد تمَّ إلغاء هذا القرار من قِبل محكمة النقض العليا عام 2011م بعد جهود متواصلة ودائبة من قبل العلماء، وثورات عارمة من قبل عامة الشعب.
كتاباته العلمية
كان الشيخ رحمه الله تعالى يستحوذه المجالات العلمية العويصة والجديدة التي لا يكتب فيها العلماء كثيراً، لا سيما في هذه الديار، فكان يكتب في مجال السياسة، والقانون، والاقتصاد، وحتى مجالات الجنس.
فكانتْ له مؤلفات تربو على 15 كتاباً، كلها باللغة البنغالية، منها:
- التطبيقات المعاصرة للاقتصاد الإسلامي (مقرّر على طلبة البكالوريوس في الجامعات التابعة لوفاق المدارس العربية)، والإسلام والنظام السياسي المعاصر، وحركة ديوبند؛ التاريخ والتراث والخدمات (مقرَّر على طلبة البكالوريوس في الجامعات التابعة لوفاق المدارسا العربية)، والإسلام وطرق الصوفية، والبحث عن الخالق وحقائق وجوده، ومجموعة مقالات الشيخ أبي الفتح، والإسلام وقضايا الجنس، وأصول دراسة الحديث النبوي الشريف وغيرها من المؤلفات القيمة والكتب النافعة.
- كما أنه كان يقرض الشعر باللغة البنغالية، فصدر له ديوان شعر بعنوان : يقظة العصر النائم، وله أيضاً قرابة مائة بحث ومقال شرعي واجتماعي وتاريخي وافتتاحي في العديد من المجلات، كما شارك في ترجمة بعض الكتب القيمة من اللغات الأخرى، كالجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله تعالى وغيره، تحت إشراف المؤسسة الإسلامية التابعة لوزارة الشؤون الدينية.
مزاياه
ويرى تلاميذه ومحبوه أن من أهم ما يمتاز به الشيخ رحمه الله تعالى عن بعض أقرانه: سعة صدره مع الجميع، واطلاعه الواسع، وثقافته العزيرة، وحرصه الكبير على مستقبل الطلاب، وتشجيعه الدائم لهم، ودأبه المتواصل في البحث والدراسة والتحقيق.
أيامه الأخيرة
أصيب الشيخ بنوبة قلبية قبل أيام نقِل على إثرها إلى المستشفى، ثم وُضع في العناية المركَّزة في مشفى البنك الإسلامي، وقد بذل الأطباء جهودهم في علاج الشيخ، ولم أمر الله تعالى كان غالباً، فأعلن الأطباء عن الموت السريري للشيخ صباح اليوم، 24 شعبان 1438هـ الموافق 20 مايو 2017م، ولبّى نداء ربه عن عمره ناهز 63 عاماً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
رحل الشيخ أبو الفتح محمد يحيى بعد أن قضى حياة حافلة بالعطاء العلمي والبحثي والتحقيقي في مجالات كثيرة، فكان مثالاً رائداً للعالِم المتفنن، الذي يحب العلم ويعشق البحث العلمي، ويحنّ إلى التحقيق العلمي، فقام بأداء مهامها على أكمل وجه أفضل طريق.
فرحم الله تعالى الشيخ الكريم، وغفر له، وأجزل مثوبته، وسقى ثراه، وجعل الفردوس الأعلى مثواه، وألهم أهله وذويه وتلاميذه ومحبيه الصبر والسلوان.