نظرة على شبهات حول التقليد والتمسك بالحديث (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، لا سيما العلماء الديوبنديين، الذين كانوا بالليل رُهباناً، وبالنهار فرساناً، وفي الدين أبدالاً، وفي القوة أبطالاً، وبعد،
فقد أفصح المحدث الناقد العلامة الشيخ حبيب أحمد الكيرانوي رحمه الله تعالى بأنه :
قد حدث في شر القرون فرقة زائغة، يسبون الأئمة، ويذمون التقليد لمن سبقهم؛ لأنهم يقولون: خالف أبو حنيفة في المسألة الفلانية الحديثَ الصحيحَ. فإن قلت: كيف عرفت أنه حديث صحيح؟ يقولون: صححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وصححه فلان وفلان. ولا يعرفون أنه لما لم يجز لهم تقليد أبي حنيفة، كيف جاز لهم تقليد مثل ابن حجر؟ ولما حرموا التقليد فكيف وجب على أبي حنيفة تقليد ابن حجر وأمثاله في تصحيح ما يصححون، وتضعيف ما يضعفون؟ وكيف وجب عليه أن يفهم من الحديث – على تقدير الصحة – ما فهمه ابن حجر وغيره؟ فهؤلاء أشد تقليدا من المقلدين؛ لأن المقلدين إنما يوجبون التقليد على غير المجتهد، وهؤلاء يوجبون على المجتهد تقليد أنفسهم بأن يقلد من قلادة، وإن كان غير مجتهد. ثم يدعون الناس إلى ترك تقليد الأئمة المجتهدين، ويلزمونهم تقليد أنفسهم في تصحيح ما يصححون، وتضعيف ما يضعفون، وفهم ما يفهمون، والقول بما يقولون، وتحليل ما يحلون، وتحريم ما يحرمون تقليداً لسلفهم، وسب من يسبون، ومدح من يمدحون. فلما انتهى جهل هؤلاء وضلالهم إلى أن تناقضت آراؤهم وأفعالهم، حيث يذمون شيئاً لغيرهم ويختارون لأنفسهم أقبح منه، ويحرمون شيئاً على غيرهم ويوجبون عليهم أشبع منه، فلا يشك عاقل في جهلهم وضلالهم. ولكن لما كانت تشكيكاتهم وتلبيساتهم يغتر بها الذين لا يعلمون وتروج عليهم، رأينا كشف بعض تلبيساتهم ههنا أحرى. (قواعد في علوم الفقه، صـ 4)
ومن الجدير قبل أن نلم بكشف الشبهات أن أورد هنا أقوالاً تلقي ضوءاً على منزلة الحديث الشريف في نفوس الأئمة – رضي الله تعالى عنهم – لنستدل منها على شدة حرصهم على التمسك به، والرغبة الأكيدة في العمل به.
قال الإمام أبو حنيفة – رضي الله تعالى عنه -:
لم يزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث، فإذا طلبوا العلم بلا حديث فسدوا. وقال أيضاً: إياكم والقول في دين الله بالرأي، وعليكم باتباع السنة، فمن خرج عنها ضل.
وقال الإمام الشافعي – رضي الله تعالى عنه -:
أي أرض تقلني إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً وقلت بغيره؟
وحدث يوماً بحديث، فقال له الحميدي – شيخ البخاري -: أتأخذ به؟ فقال الشافعي:
رأيتني خرجت من كنيسة علي زنار؟ حتى إذا سمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لا أقول به؟!
وأبدع تشبيه الإمام مالك – رضي الله تعالى عنه – للسنن حيث قال:
السنن سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
وقال الإمام أحمد – رضي الله تعالى عنه -:
من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة. (انظر: أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء للشيخ محمد عوامة، صـ 26-27)
هذه كلمات قليلة من مجموعة كثيرة تزخر بها كتب التراجم والسير لهؤلاء الأئمة، ونلاحظ أنها تؤكد معنى واحداً: هو لزوم الأخذ بالسنة النبوية، وأن من تعلم السنة وعمل بها كان من الفائزين الناجين، ومن أعرض عنها كان ذلك علامة خذلانه وانحرافه.
فإذا تقرر في قلب القارئ الكريم وعقله هذا الاتجاه نحو الأئمة جميعهم – إلى جانب اعتقاده بإمامتهم في العلم – أمكنه حينئذ أن يفهم ما نذكر.
(متواصل....)
_____
محفوظ أحمد: كاتب إسلامي، خطيب في لندن.