أصولية الأصل لاستعادة الريادة العالمية
إن مما يميز الثقافة الإسلامية سعة حدودها الحضارية مع ثبات أصولها المكونة لهويتها الراقية. وإن شخصية الأصل الأكبر لها سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي المنبع الصافي لهذه الثقافة، تنهل الحضارات المختلفة منه عبر أكثر من أربعة عشر قرنا ولا ينضب له معين. إن هذا الأصل الكريم ليس في حاجة إلى دفاع أمثالنا عنه، فهو شمس ساطعة وإن نبحت الكلاب عليها، ولكننا نحن – أبناء هذه الثقافة – الذين في حاجة إلى أن نسافر بشعلة هذا النور إلى ميادين الثقافات الأخرى. وكيف نستطيع أن نسافر بها وقد خلفناها وراء ظهورنا؟!
في عصرنا هذا هناك من أبناء الثقافات الأخرى من أبصر شيئا من هذا النور وأخذ ينهل من منبعه كما نهل سابقوهم عبر قرون الازدهار الحضاري لثقافتنا. ولي عهد التاج البريطاني مثلا، الأمير (تشارلز)، ضمن إدراكه لعظم قدر هذا الأصل، عادة ما يشير إلى أنه "علينا أن نعود إلى إحياء ما تمتع به العالم الإسلامي في عصوره الذهبية من عمق وحس مرهف، ورحابة صدر في التفكر والروية، واحترام للحكمة..."
كذلك المؤرخ الفرنسي (جوستاف لوبون) في كتابه "حضارة العرب" وضح أنه "عندما طال عهد الجهالة في أوروبا العصور الوسطى وأدركت بعض العقول المستنيرة فيها الحاجة إلى نفض الجهالة عنها، طرق الأوروبيون أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه لأنهم كانوا وحدهم سادة العلم في ذلك العهد."
هذه العظمة البشرية الفريدة من نبع جوهر النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أثرت قوة إضاءته في عقول بعيدة جدا عنه تاريخيا وجغرافيا وعقديا، فوصفه (توماس كارلايل) بأنه "رجل فريد واحد في مقابل جميع الرجال" وصنفه هارت على رأس عظماء العالم حتى فوق موسى وعيسى عليهما السلام، وأعلن إدراكه أن محمدا "كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً كاملاً على المستويين الديني والدنيوي" بينما أدرك لامارتين أن محمدا صلى الله عليه وسلم "رجل أسس عشرين إمبراطورية مدنية وإمبراطورية روحية واحدة ".
فإلى أين يا ترى نحن منصرفون عن هذا الأصل العظيم؟! إننا اليوم في حاجة إلى تدبر ثقافي داخلي عميق بجواهر شخصية هذا الرسول الكريم التي منها أضاءت عقول من تبعه من العرب والعجم فانتقلوا من رعاة الإبل والغنم إلى سادة الحضارات والأمم. ونحن إن لم ندرك حقيقة هذه الجواهر المحمدية التي شعت على الأمم لقرون طويلة فإننا لا شك سنخسر من هويتنا أعظم ما فيها – الروح السامية والأخلاق العالمية العالية.
علينا أن ندرك أن سر جمال هذه الشخصية التي أسرت قلوب بلايين البشر عبر التاريخ يكمن في الطاقة الروحانية العظيمة التي سمت على جميع الحاجات المادية فلم يبد منها طمع في أموال الأمم بل تميزت بحرصها الشديد على ترقية أرواح الناس للترفع عن الشهوات الطينية وتربية النفوس على الرغبات السماوية. أما الجواهر النبوية في الأخلاق فقد تمثلت في عالميتها وعلوها فوق الرذائل، فانعكست على كل من تبع محمدا صلى الله عليه وسلم فصار محمود الأخلاق. ولا أدل على ذلك من تعامل قادة المسلمين وعلمائهم بل وعوامهم مع الغزاة الذين اعتدوا عليهم في عقر ديارهم، وما أخلاق صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين منا ببعيد، ولم يكن لصلاح الدين أن تظهر له هذه الصفات العلية لولا انعكاس شعاع جواهر النبي عليه، فهو صلى الله عليه وسلم الذي لم ينتصر لنفسه من الذين لاقوه أشد النكال، بل قال لهم «اذهبوا فأنتم الطلقاء». وإنني لأسأل نفسي، كما سأل لامارتين: "فهل بعد ذلك يوجد أي رجل أعظم منه؟"
إن ما نرجوه في زماننا هذا من أنفسنا، ثقافيا - بالمعنى الشامل للثقافة - أن نتخذ كل السبل الحضارية التي من خلالها نتعرف من جديد على مكامن القوى التي تمثلت في أعظم مثال وهبه الله عز وجل للأكوان (ولكم في رسول الله أسوة حسنة). وقد أثبت التاريخ، بعد الوحي الإلهي، أن جوهره صلى الله عليه وسلم يفوق كل أنواع الجواهر الكريمة ولا تنطفئ أنواره ولا تنحصر في قوم دون قوم. هكذا أدركه أسلافنا الكرام الذين قادوا الأمم وعلموها خير ما يهتدي إليه البشر.
ورحم الله الإمام شرف الدين البوصيري حيث نعت هذا الجوهر الشريف في قصيدة البردة:
منزه عـن شريك في محاسنه *** فجوهر الحسن فيه غير منقسم
________
بقلم: الشريف ابن هاشم عبدالله الحسيني المدني
مؤسس وأمين الجمعية البريطانية الإسلامية