حديث الزهرة..
ولدت قبيل الفجر، ولما ينتشر النور! فابتسمت أمي وابتسمت الدنيا حولي! وفتحت عينيَّ بتعجب ودهشة! لم أدرك شيئاً، ولم أفهم غرضاً. من أنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ فسمعت صوتا، ملؤه الحب والحنان، يقول: يا بنيَّتي! لم أنت متعجبة؟ قلت: من أنت؟ وما هذه الأشياء التي أراها؟
قال الصوت الحنون: أنا أمك الحنون، وضمَّتني إلى صدرها، ورسمتْ قبلة حارّة على جبيني الرقيق! وقالت: أنت بنتي الحبيبة التي انتظرت ولادتها منذ أيام، والآن! وبعد انتظار طويل! رأيت وجهك المنوَّر! وقد اثتلج صدري وبرد فؤادي! انظري إلى تلك البنات الجميلات اللواتي يتمايلن في أحضان أمهاتهن! وانظري إلى تلك السماء الزرقاء التي تدلُّنا على عظمة ربنا سبحانه! وانظري إلى ذلك السحاب الأبيض الذي يجري من هناك إلى هناك؛ ليتساقط بصورة الرحمات من الله تعالى على عباده! وانظري إلى تلك الطيور الرائعة التي تطير في الهواء الطلق! وتسبِّح بحمد ربِّها! يا بنتي! هذه الدنيا جميلة، ورائعة، وعجيبة، ومسِرَّة، لكن، مع الأسف الشديد، سيذهب كل واحد منها ويرحل يوما ما، كما قال ربنا سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27] فلنستعدَّ للرحيل قبل الرحيل..
كنت أسمع كلامها وأفكر .. وإذا بصوت خفي يناديني ببهجة وسرور قائلا: أهلا بك في هذه الدنيا الجميلة! الحمد لله على سلامة ولادتك! هل عرفتِني؟ أنا أختك الكبيرة! ولدت قبل يومين! وقد تعلمت فيهما أشياء كثيرة! وخبرت أموراً كثيرة! فهل تحبِّين أن تسمعي مني قصة منها عجيبة؟ فيها العبر والدروس والتجربة والخبرة! كنت ألعب البارحة في الهواء وأتمايل في الفضاء، فجاءت طفلة إنسانيَّة! فأوجستُ منها الشر! وشعرت بالخوف والذعر! فاحتذرت منها، وأعددت نفسي لمقابلتها، وقرَّرتُ أن أدافع عن نفسي بشُوَيكات أمي، إن اقتربت مني بنية خبيثة، فأتت بسرعة وانتزعت جارتي من حضن أمها قبل أن أجد فرصة لأنبههم عن الشر! فحزنتُ واستحييتُ من الله تعالى ثم منها، وبدأت الطفلة تقترب مني! فذرعت! ولكنها ارتحلت عني أخيراً! والحمد لله الذي كفاني القتال!
ما إنْ انتهتْ أختي من حكاية القصة حتى رأينا طفلة إنسانيَّة تقبِل إلينا، فخفتُ! وبدأت فرائصي ترتعد من شدة الخوف! فقالتْ أختي: لا تخافي يا أخَيَّتي! هذه بنت طيبة جداً! لا تضرّنا أبداً، بل هي تعتني بنا دائماً، وستفرح جدا بولادتك ورؤيتك!
اقتربتْ حتى دنتْ منا! فلما رأتني فرحتْ جدا! واستبشرتْ خيراً! وباركت لي كثيراً! ودعتْ لي بالخير والبركة! واستنشقتْ عبير الرائحة الفواحة منا، ولعبتْ معنا، ثم عادتْ!
فعلمتُ أن الخلق ليسوا سواء، فيهم الصالحون، وفيهم الطالحون، ومنهم الطيبون، ومنهم الخبيثون، وعلمتُ أيضاً أن إساءة الظن بالآخرين دون حجة وبرهان ليستْ جيدة..
ها أنا قد أكملتُ يومين من عمري! واليوم ولدتْ أختي الصغيرة! ورأتْ وجه الدنيا! ففرحنا جداً جداً بولادتها! واستبشرنا خيراً كثيراً بميلادها! ولكن حدث شيء كبير!؟ كبير جدا!؟ هل تعرف، أيها المستنشق! ما هو؟
نعم! قد توفيتْ أختي الكبيرة، الطيبة، النصوحة، المحِبَّة للخير، والداعية إليه دائماً اليوم! آه! يا لها من مصيبة كبرى! يا لها من فظيعة عظمى! وقد علقت بقلبي صورتها الأخيرة البشوشة الجميلة! كيف بدأ يذبل جسمها وقتاً فوقتاً! وتشحب وريقاتها لحظة فلحظة! وهي تسير إلى الفناء والذوبان! آه! ما أشدَّ تلك اللحظة! التي تودِّع فيه أخت أختها الحبيبة النصوحة الطيبة! آه! يا الله!
وها هو اليوم دخلتُ إلى الخامسة من عمري المديد! وبدأت أشعر أن وريقاتي أيضاً بدأت تشحب، وجسمي بدأ يجف! كما حدث لأختي قبل أيام، وأحسُّ أني أقرب إلى الموت مني إلى الحياة. آه! لو استطعت أن أبعد الموت عن نفسي وبقيت على هذه الأرض لأعطِّر بني الإنسان برائحتي الفوَّاحة، وأستطيع أن أدخل إلى قلوبهم السرور والبهجة والفرحة.
ولكن..! ليست هذه الدنيا دار بقاء! إنها ومن فيها وما فيها سائرة إلى الزوال والفناء والهلاك! ولا يبقى إلا ربنا سبحانه، فالسعيد من أسعد نفسه بعبادة الله تعالى، والحصول على مرضاته، والنفع لكل من حوله، والشقّي من شقيتْ نفسه بالكفر والبعد عن الله تعالى، والإساءة إلى الخلق.
فالحمد لله على الحياة! والحمد لله على الموت! والحمد لله على كل حال!
وأقول لكم يا أحبتي قبل الوداع: لا تخطئَّن قلوبُكم قول "الحمد لله"، قولوها دائماً وأبداً وعلى كلِّ حال.