مع جدتِّي في جبال سَنْغِي غِرَا
مفكرتي! ما قلتُ لكِ عن بيتي قليل جداً، ولديَّ الكثير الكثير عن أخبار هذا البيت ورواياته، ولم أصفْ لكِ إلى الآن بيتي الذي تسوِّره جدران عالية، كما تحيطه أشجار جوز الهند والفوقل الطِوال، فيخيِّلني كأنَّه قلعة صغيرة، وتلك الأشجار حُرّاس هذه القلعة!
عندما أصعد السقف وأنظر وراء الجدران تظهر أمامي صفوف الجبال الرواسي، الجبال التي لبستْ حلة خضراء جميلة من أنسجة الأشجار المختلفة، فتذهب نفسي إلى عالم بعيد، إلى زمن بعيد، إلى زمن أجدادي الأُوَل الذين قطنوا في أرض أفغانستان، فأشعر بشعور لطيف، فأخيِّل نفسي أني بنت أفغانية، وهذه الجبال التي أمامي هي جبال أفغانستان الشاهقات، فأخترق سُور الحاضرمتسلِّلة، وأتغلل في شِعاب الماضي السحقيق، فأمعن نظري في صُورها ومناظرها، فإذا بصورة تمسك بعيني، وإذا هي جدتي الصغيرة الذاهبة إلى جبال سنكي غرا، فتلعب فيها مع قريناتها، وتتسلق على الأشجار، وتقطف الثمار، وتوزعها بين صاحباتها، فيأكلن جميعاً، ويدعونَ الله تعالى بالدعاء المأثور: [الحمدُ للَّه الذيْ أطعَمَنا، وسقَانا، وجعلَنا مسلمين] ويحمدن على هذه النعمة الخالصة الطريَّة، فيمر الوقت سريعاً متفلِّتاً من جُعبة الحاضر للذوبان في غمار الماضي، وتأذن الشمس بالغروب فتستعد جدتي وصُوْحِباتها للعودة إلى البيت، وأياديهنَّ مملوءة بالجوز والخوخ، فيرجعن إلى البيت وهن يرقصن طرباً من هواء الجبال الحر وريحها الغضَّة، وتترفرف أشعارها القطِطة في الأفق الطلِق، وتضرب خديها الصغيرتين، وفجأة رأيتْ شبحاً يتبعها فوقفتْ، ووقفتْ معها أترابها، وأنعمتْ النظر في الشبح فعرفتْني، فتبسمتْ، فهمستْ في أذني كلمة، لا أذكرها، وسارتْ في طريقها، فأعجبتُ من جمال قسمات وجهها ولمعان عينيها الكبيرتين!
ناديتها بأعلى صوتي: يا جدتي! قِفِي! أريد أن أذهب معكِ إلى البيت، وأشارك في سِربك الجميل عشية وضحاها، فأخرج معكِ إلى الجبال والوديان بكرة، وأعود إلى البيت أصيلاَ، وأحمل معي الجوز بملء يديَّ! جدتي! أرجوك! خذيني معك!
نظرتْ إلى الخلف هُنيهَة، وابتسمتْ، وقالتْ: يا بنيَّتي! لم يحِنْ وقتكِ بعد، أمامك أيام وليالي طويييييلة، ومساحات ومسافات عرييييضة حتى تشاركيني في الغدوة والرواح! حبيبتي! إني أعدكِ أن يومك قادم، حينذاك نلعب معاً، ونرتع معاً، وحتى ذلك الحين ابقيْ معي من وراء الحجب!
روحي! صاحباتي ينتظرنْ، وربما نتأخر في الطريق، فيحزن الوالدين، وتفوتنا الصلاة، حِبِّي! وداعاً! إلى اللقاء! لمحتْ بيدها اليمنى إليَّ ثم سارتْ وسارتْ حتى اختفتْ وراء الشِّعاب والوِدْيان! وعُدتُ إلى نفسي حزينة، فإذا بي فوق سقف بيتنا وحيدة، وقد تغشَّى ظلال الليل حولي! فنزلت إلى البيت وقد ارتسمتْ صورة جدتي في مخيِلتي!