البؤس القاتل..!

قصة اجتماعية إصلاحية تهدف إلى لفت نظر المجتمع إلى الفقراء والبائسين، والنساء والأطفال خاصة، لضعفهم، وتعرضهم للاستغلال من الأقوياء الذين فقدوا الرمة والشفقة..

كيف أتجاهل اليوم ذلك المنظر الفظيع، وقد قطع كبدي، وتمشى منه رعدة باردة في عروقي!؟

امرأة واقفة على رصيف القطار، معها ولدان، ضمت أحدهما إلى صدرها، وأمسكت الآخر بيدها، سحابة سوداء تغشي وجهها، توحي عن شقائها، والأشقياء في الدنيا كثير! والهزال الساري في جسمها ينم عن بؤسها الذي اقتات من لحمها وعظمها، والبؤساء في العالم غير قليل! والولدان قد وصل بهما الحال إلى أشد من ذلك وأخطر، فكانا ضغثا على إبالة!

وما يدرينا كم من ليلة باتتها إلى جنب ابنيها الصغيرين في جوع ولوعة! ولكم غدت على الطوى متقرقرة البطن! وأضحت وما في الدار قدر غلت! أو أثافي نارت اشتعلت!.

ظلت تدير نظرات متلصصة يمينا وشمالا، وبقيت على هذا الشأن، يبدو كأنها تتطلع إلى أفق نصيبها لعلها ترى خلاله شيئا، رسم له القدر أن يكون ويكون.. وليس غير!

وبعد برهة من الزمن انعصر فيها فؤادها من هول الصبر أو كاد، قد مس سمعها صفير القطار، فتحركت من مكانها، وأصبحت تدنو من الرصيف رويدا رويدا.. وانتابت وجهها ألوان بعد ألوان.. كل لون يكتم من ورائه ألغازا وأسرارا لا يعلمها إلا ربها..!

وحانت الساعة الحرجة، وأطفأ القدر شعلة الانتظار، فوصل القطار يزحف على الأرض مسرعا كالحية الرقطاء، فخطت المرأة خطوة مرتبكة ومعها ولداها يملآن الفضاء البكاء والعويل على نحو مؤلم..

وعلى نحو غير متوقع استلقت المرأة على قفاها أمام القطار المسرع، وألقت بالولدين على الرصيف بقلب لا تعرف الأمومة والحنان، ومن فوره جزأها القطار والولدين شطرين..!! وما كان للركاب أن ينتبهوا لولا أن تناثرت قطرات دمائهم على وجوههم!.

***

ازدحم الناس حول موضع الحادث، وعلت الضجات والصرخات.. كل يدلي برأيه، ويسهم بحظه، ولكن أحس الشاعرون ومن في أحشائهم قلب ينبض، أو ضمير يتململ، شعروا أن روحا حلقت في فضاء الكون تنادي بأعلى صوت، فيه بحة وشدة، مع مزيج من الرأفة والرحمة، لا يسمعه إلا أصحاب الضمائر الحية، والنفوس الشاعرة.. تنادي:

وداعا يا قوم! قد طفحت كؤوس الصبر، وقست القلوب، وطمست النفوس، فعادت لا تحمل ذرة من الرأفة، أو خردلا من الرحمة، ولا قدرا من الغيرة، أو شيئا من الإباء!.

أيها القوم! أقوياؤكم يأكلون الضعفاء، وأصحاب الثراء يتمتعون بكدح الفقراء، ويملؤون صناديقهم على حساب المعدمين، فما أجرأهم على الله! حيث صاروا يشيدون على أطلال الطبقة الفقيرة قصورهم، ويمتصون منهم دماءهم، فيسقون بها بساتينهم!.

واسمعوني يا قوم! وسجلوا عني بقلم عريض.. أنني عشت بين أظهركم عيشة بائسة، لا يعيشها إلا الساقطات، واكتويت من لهيب الفقر والبؤس مرات ومرات! فاجتويتم عني، ونفضتم أيديكم مني، وما جريمتي إلا أن صفرت يداي من صكوك الذهب والفضة، ووسائل المادة والمعدة، لا أملك قوت يوم أتمالك به، على أنفاسي اللافظة، أو أحتفظ بها على حياة أولادي، فرأيت في الموت الأفق الأرحب، فكان أن وليت وجهي شطره، وذقت طعم كأسه المريرة.

فخبروني..! ما يكون ردكم على الله يوم لا ينفع مال ولا بنون!؟ فأسفا على قوم قد اتخذوا المادة والمعدة مقياسا لشرفهم، وانتحلوا الثقافة عنوانا لكرامتهم، فلا يزنون شرف امرأة في ميزان غير ميزانها، ولا يقيسونه بغير مقياسها.

فانتبهوا يا قومي من رقدتكم، وخذوا حذركم قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون. واعتبروا قبل أن يأتي يوم  يضيق على البائسات الساقطات أرض الله بما رحبت، فيسيرون مسيرتي، ويحذون حذوي، وما يوم حليمة ببعيد!.

ويا شرفاء القوم! لستم بمنجاة مما تورط فيه زملاؤكم، ولا أزكيكم على الله، وكأني بكم وقد خرست ألسنتكم، أمام الله تعالى، فما أنتم فاعلون!؟

ما أحوجكم يا عقلاء القوم! أن تقفوا في وجه الخطر الداهم الذي يطلع عليكم من الأفق! فلا تتساهلوا، ولا تتقاعسوا عن الواجب وأنتم على الفراش الناعم، في صمت هادئ، تتمتعون ببرد النسيم، ومس الحرير..!!

المصدر: http://adabislami.org/magazine/2014/03/1334/87

شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
وسوم متعلقة
  • #البؤس
  • #قصة
  • #الفقراء
  • اكتب معنا


    يمكننا نشر مقالك على شبكة المدارس الإسلامية، دعنا نجرب!

    أرسل من هنا

    المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
    الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
    شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025